[السماء وما تطلق عليه]
السماء إذا جاءت في كلام العرب تحتمل شيئين: أحدهما: مطلق العلو، فكل ما فوقك سماء, والثاني: السماء المبنية التي أخبر الله جل وعلا بها، وكله جاء في القرآن.
أما المعنى الأول فمثل قوله جل وعلا: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ} [الحج:١٥]، فالسبب الذي يمده إلى السماء يجعله في السقف، والمعنى: إذا كان الإنسان يظن أن الله لا ينصر رسوله فليعجل بقتل نفسه بأن يجعل حبلاً في سقف البيت الذي فوقه، ثم ليضعه في حلقه، ثم ليقطع حياته وينتحر، فإن الله لابد أن ينصر رسوله.
فإذاً السماء في هذا المقصود بها ما فوق رأس الإنسان، فكل ما فوق رأس الإنسان يسمى سماء، وكذلك قول الله جل وعلا: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:١٦]، وأما كونها جاءت في السماء المبنية فقوله جل وعلا: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا} [ق:٦] في آيات كثيرة جداً.
فهنا قوله في هذا الحديث: (لو أن السماوات السبع) قصد بها السماوات المبنية، وأنها سبع سماوات، وهذا جاء في آيات متعددة كثيرة، وكل سماء فوق الأخرى، وأعلاهن السماء السابعة، فجاء في حديث المعراج أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما ذهب بصحبة جبريل عليه السلام كان جبريل يستفتح -أي: يطلب أن يفتح له باب السماء- ثم يسأل فيقال له: من؟ فيقول: جبريل.
فيقولون: ومن معك؟ فيقول: محمد.
فيقولون له: أوبعث؟ فيقول: نعم.
فيفتح له، وهكذا في جميع السماوات كان يقول ويقال له.
وكذلك في حديث البراء بن عازب في قصة الاحتضار، وأن الإنسان إذا كان في إقبال من الآخرة وإدبار من الدنيا نزل إليه -إذا كان مؤمناً- ملائكة بيض الوجوه معهم حنوط من الجنة وكفن من الجنة فجلسوا منه مد البصر، ثم جاء ملك الموت وصار يخاطب روحه ويقول: أيتها الروح الطيبة في الجسد الطيب! أخرجي إلى روح وريحان ورب غير غضبان.
فتخرج تنسل كما تخرج قطرة الماء من في السقاء، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها ويضعوها في ذلك الكفن وذلك الحنوط، فيصعدون بها إلى السماء فيستفتحون لها باب السماء فيفتح لها.
وهكذا إلى أن تصل إلى السماء السابعة، فإذا وصلوا إلى السماء السابعة واستفتحوا فتح لها، فيقول الله جل وعلا لملائكته: (اكتبوا كتابه في عليين، وأعيدوه إلى الأرض؛ فإني منها خلقتهم وإليها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى).
أما إذا كان فاجراً فإنه إذا جاءه ملك الموت يقول له: أيتها الروح الخبيثة في الجسد الخبيث! اخرجي إلى سخط وغضب من الله فتتفرق في بدنه وتتشبث بعروقه وأعصابه، فينتزعها انتزاعاً شديد كما ينتزع السفود إذا أدخل في الصوف المبلول، والسفود: هو الحديدة التي يشوى عليها اللحم، إذا أدخلت في صوف مبلول وهي محماة يلتف عليها الصوف، فينتزعها ويخرج معها ما يخرج من شدة التشبث والتمسك؛ لأنها علمت بالعذاب أنه وصلها، فإذا استخرجها لا يدعها الملائكة الذين نزلوا معهم مسوح من النار وكفن من النار وحنوط من النار، فلا يدعونها في يده طرفة عين حتى يأخذوها ويضعوها في ذلك الكفن وذلك الحنوط، ثم يصعدون بها إلى السماء، ويخرج منها أخبث رائحة وجدت على وجه الأرض، نسأل الله العافية.
فإذا وصلوا إلى السماء الدنيا واستفتحوا لم يفتح له، ولهذا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ} [الحج:٣١]، فيؤمر أن تطرح طرحاً، وقد قال تعالى: {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف:٤٠]، وكون الجمل يدخل في ثقب الإبرة لا يمكن، يعني أنه مستحيل دخولهم الجنة، فالمقصود أن السماء لها أبواب مبنية.
وقوله في هذا الحديث: (عامرهن غيري) يدل على أن كل سماء لها عمار، والعمار هم الذين يكونون فيها للعبادة والعمل، والذين في السماء ملائكة الله، وكل سماء مملوءة من الملائكة الذين خلقوا للعبادة، والله غني بذاته عن كل ما سواه، فلا يتقوى بملائكته ولا يستنصر بهم، ولكنه خلقهم ليأمرهم وينهاهم، وهم يعبدون الله لا يعصونه طرفة عين.
وقد جاء في الحديث ما يدل على كثرتهم الكاثرة؛ فإنه جاء قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أطت السماء وحق لها أن تئط)، والأطيط: هو صوت الشيء المحمول فإذا حمل على خشب أو على غيره حمل ثقيل صار له صرير، فهذا الصرير يسمى أطيطاً، فمعنى ذلك أن السماء محملة بكثرة الملائكة.
فيقول: (أطت السماء وحق لها أن تئط؛ ليس فيها موضع قدم إلا وملك ساجد أو راكع أو قائم)، وهذا إلى قيام الساعة، فإذا قامت الساعة قالوا: سبحانك ربنا! ما عبدناك حق عبادتك.
ولما عرج بالرسول صلى الله عليه وسلم رأى البيت المعمور، والبيت المعمور في السماء السابعة على غرار الكعبة، وهو في السماء السابعة مثل الكعبة في الأرض، تزوره الملائكة وتطوف به تعبداً لله جل وعلا.
يقول صلى الله عليه وسلم: (رأيت إبراهيم عليه السلام مسنداً ظهره إليه)؛ لأن إبراهيم عليه السلام هو الذي بنى الكعبة، فجوزي بأن جعل في هذا المكان العالي الرفيع الذي يتعبد فيه لله جل وعلا في السماء السابعة، يقول: (فإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة لا يعودون إليه أبداً) يعني: ما تحصل لهم فرصة لأن يعودوا مرة أخرى لكثرة الملائكة، وإنما كل ملك لا يأتي إلى هذا البيت إلا مرة واحدة فقط لكثرتهم، وهذا يدل على الكثرة الكاثرة.
وقد أخبرنا جل وعلا عن بعض وظائفهم، فمنهم من يحفظ على بني آدم أعمالهم ويحصيها عليهم، يقول الله جل وعلا: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:١٠ - ١٢].
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن معكم من لا يفارقكم فاستحيوهم)، يعني: استحيوا منهم، فهم يستحيون من الأمور التي لا تناسبهم، مثل النظر إلى العورات وما أشبه ذلك، ولهذا لا يجوز للإنسان إذا دخل الحمام أن يتكلم؛ لأنه إذا تكلم يضطر الملك الكريم أن يأتي ليكتب كلامه ويسجله وهو لا يدخل الحمام؛ لأن أماكن القاذورات وأماكن النجاسات أماكن للشياطين، وهي التي تليق بهم، أما الملائكة فلا يدخلونها.
وكذلك إذا كشف الإنسان عن عورته لا ينظرون إليه، بل يفارقونه، ولهذا جاء النهي عن كون الإنسان يتعرى وحده، فعليه أن يستتر استحياء من الله ومن عباده من ملائكته، فهذا معنى قوله: (استحيوهم) يعني: استحيوا منهم، ولا تعملوا الأعمال التي تثقلهم ويكرهونها لأنهم لابد أن يكتبوا كل شيء، فكل ما صدر من الإنسان وكل ما قاله الإنسان وتلفظ به يكتبونه، وكذلك ما عمله، كما قال الله جل وعلا: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:١٨] أي: يراقبه ومستعد للكتابة فهؤلاء مع كل إنسان، وإذا مات الإنسان طووا صحائفهم، ثم إما أن يجلسوا على قبره يستنصرون له، أو يذهبون إلى حيث شاء الله، والذي يولد يكون له ملائكة أخر غير السابقين، فكل إنسان ليس له إلا كاتبين فقط لا يشاركون غيره في الكتابة، فما يكتبون إلا لواحد فقط، فإذا جاءوا يوم القيامة جاءوا بصحائفهم التي سجلوها وأحضروها بين يديه، وهي -على القول الصواب من أقوال العلماء- الصحائف التي تنشر وتعطى الإنسان يوم القيامة، كما قال تعالى: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:١٣ - ١٤] يعني: حاسب نفسك تجد فيه أنك في يوم كذا في مكان كذا في ساعة كذا قلت كذا وكذا، أو عملت كذا وكذا.
وما يستطيع أن ينكر، ومع ذلك فبعض الناس ينكر، فيقول: يا رب! ظلمتني الكتبة أو يقول: يا رب! لا أقبل شهادة هؤلاء.
فيقال له: ومن تقبل؟ فيقول: لا أقبل إلا شاهداً من نفسي فيختم الله جل وعلا على فيه، ويقول لأعضائه: تكلمي.
فيتكلم الجلد، ويتكلم السمع، ويتكلم البصر، وتتكلم الأيدي والأرجل وتنطق، ثم بعد ذلك يخلى بينه وبينها ويقال له: تكلم.
فيعود على أعضائه باللوم والشتم ويقول: بعداً لكن! فعنكن كنت أنافح.
قال تعالى: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ} [فصلت:٢٠ - ٢٢] إلى آخر الآية.
فقوله تعالى: ((ما كنتم تستترون)) يعني: ما كنتم تخافون الله وتفعلون أمره وتجتنبون معاصيه حتى لا تشهد عليكم هذه الأعضاء {وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} [فصلت:٢٢ - ٢٣].
فالمقصود أن الملائكة الذين يكتبون أعمال الإنسان لا يشاركون في كتابة أعمال إنسان آخر، فكل واحد يكتب له اثنان، وكذلك الملائكة الذين وكلوا بقبض الروح وحملها، ومنهم الملائكة الذين وكلوا بنفخ الروح في رحم المرأة وكتابة ما يستقبله من العمل والأجل والرزق والشقاوة والسعادة.
وكذلك منهم الحفظة غير الذين يحفظون الأعمال، وهم الذين يقول الله فيهم: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْ