للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[خطأ من يظن أن التوحيد هو توحيد الربوبية فقط]

قال الشارح رحمه الله: [وليس المراد بالتوحيد مجرد توحيد الربوبية، وهو اعتقاد أن الله وحده خلق العالم، كما يظن ذلك من يظنه من أهل الكلام والتصوف، ويظن هؤلاء أنهم إذا أثبتوا ذلك بالدليل فقد أثبتوا غاية التوحيد، وأنهم إذا شهدوا هذا وفنوا فيه فقد فنوا في غاية التوحيد، فإن الرجل لو أقر بما يستحقه الرب تعالى من الصفات، ونزهه عن كل ما ينزه عنه وأقر بأنه وحده خالق كل شيء لم يكن موحداً حتى يشهد بأن لا إله إلا الله وحده، فيقر بأن الله وحده هو الإله المستحق للعبادة، ويلتزم بعبادة الله وحده لا شريك له، والإله هو المألوه المعبود الذي يستحق العبادة، وليس هو الإله بمعنى القادر على الاختراع، فإذا فسر المفسر الإله بمعنى القادر على الاختراع واعتقد أن هذا المعنى هو أخص وصف الإله، وجعل إثبات هذا هو الغاية في التوحيد، كما يفعل ذلك من يفعله من متكلمة الصفاتية، وهو الذي يقولونه عن أبي الحسن وأتباعه لم يعرف حقيقة التوحيد الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن مشركي العرب كانوا مقرين بأن الله وحده خالق كل شيء، وكانوا مع هذا مشركين، قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:١٠٦].

قالت طائفة من السلف: تسألهم: من خلق السموات والأرض؟ فيقولون: الله، وهم مع هذا يعبدون غيره، قال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [المؤمنون:٨٤ - ٨٩]].

المتكلمون جعلوا توحيد الربوبية غاية التوحيد، ويستدلون على توحيد الربوبية بالأدلة العقلية التي اتخذها المتكلمون أصلاً في هذا، وبنوا عليها الحكم على الناس، وقالوا: إن أول واجب على العبد النظر في هذا الشيء، يجب عليه أن يتجه للنظر وإثباته بالدليل، فإن لم يفعل هذا فليس بمؤمن.

والواقع أن الذي يقولونه لا يكفي في النجاة؛ لأن النظر الذي أرادوه وقالوه وأثبتوه، كله في إثبات الربوبية؛ لأنهم قالوا: هذه المخلوقات تدل على الخالق؛ لأن الإنسان لا يمكن أن يكون أوجد نفسه، ولا يمكن أن يكون أوجده موجد مثله، وكل محدث لابد له من محدث، والمحدث يجب أن ينتهي إلى محدث قادر كامل، أول بلا بداية وآخر بلا نهاية؛ لأنه غني بنفسه عن كل ما سواه، وأدى النظر إلى هذا في النظر في المخلوقات وفي أنفسهم وفيما حولهم من المخلوقات وفي الآفاق، وهذا جعلوه هو الغاية في التوحيد، والواقع أن هذا لا يكفي، والفناء الذي يقوله بعض الصوفية المقصود به أن يكون نهاية عمله وغاية مقصده في هذا، يعني أنه يجتهد كل الاجتهاد في هذا، والواقع أنه قد يفنى في هذا وهو مشرك بالله يعبد غيره؛ ولهذا أدى هذا الأمر بكثير منهم إلى الزندقة والخروج من الدين الإسلامي، فيقول مثلاً: أنا أتقلب في طاعة الله دائماً؛ لأني ما أخرج عن إرادته وعن مشيئته، فمثلاً الصلاة مأمور بها شرعاً، فإذا لم يصل يقول: إن الله شاء ذلك مني وأراده، فإذاً: أنا مطيع لإرادة الله الكونية القدرية، فأنا في طاعة، هذه نتائج النظر، وهل المقصود النظر في هذا فقط؟ لا.

يقول ابن إسرائيل الذي يجعلونه من العارفين: أصبحت فعلاً لما يراد بي ففعلي كله طاعات كل فعله طاعات، حتى الكفر يكون طاعة عنده! وكذلك غيره، وهؤلاء المتكلمون يجعلون معنى الإله: القادر على الخلق والإيجاد والإحياء والإماتة، ويسمونه القادر على الاختراع، وهذا هو معنى الإله عندهم، وهذا في الواقع كذب على اللغة وعلى الشرع، وليس هذا معناه، وإنما معنى (الإله) المعبود، وليس معناه الرب؛ لأن الرب هو المالك المتصرف الذي يتصرف في الشيء ويملكه، ويفعل فيه ما يريد، ومعنى الرب غير معنى الله، معنى الله هو الألوهية والعبودية، والله طلب من الخلق أن يعبدوه وأن يوحدوه، فالمقصود أن الذي جعلهم يقولون هذا القول هو كونهم اعتمدوا على عقولهم، والعقول غايتها أن تدل على وجود الله فقط، أما أن تدل على بيان حقوقه، فهذا لا يدل عليه إلا الوحي الذي جاءت به الرسل.

وفي الجملة يلزم من كونه الرب أن تعبده وحده، ولكن من يعرف العبادة؟ العبادة تتوقف على الشرع، فمن العبادة الشرعية الإخلاص في كل عمل يصدر من الإنسان، فيريد به الثواب، والعبادة لابد أن يأتي بها الأمر من الله جل وعلا، وهذا يتوقف على الشرع، وهذا في الواقع وإلا فأقسام التوحيد متلازمة، لا ينفك واحد عن الثاني.

وقولهم: الإله هو القادر على الاختراع، وإن هذا من أخص خصائص الإله يلزم منه أن يوحدوه، وأن يعبدوه وحده، وألا يتجهوا بقصدهم ونياتهم وأفعالهم إلى شيء آخر، كما قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:٢١ - ٢٢]، فألزمهم الله جل وعلا بأن تكون العبادة له وحده؛ لإقرارهم بأنه هو الذي خلقهم وخلق من قبلهم، وهو الذي جعل الأرض على هذه الصفة، وهو الذي ينبت النبات، وهو الذي يرزقهم، ألزمهم بإقرارهم هذا أن يعبدوه وحده، وهكذا في آيات كثيرة يجعل ربنا جل وعلا إقرارهم بتوحيد الربوبية ملزماً لهم بأن يعبدوا وحده، كقوله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:٦٢]، وهم اتخذوا مع الله آلهة، فالله ينكر عليهم هذا، وهذا في الواقع كثير في القرآن، ولكن الذي جعل المتكلمين يقولون هذا القول هو إعراضهم عن القرآن وعدم تأملهم له، وزعمهم أن في القرآن ظواهر لا تدل على التوحيد، عكس ما كان عليه السلف.

فالحقيقية والواقع أن اليقين هو الذي جاء به القرآن، وجاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، لا ما دل عليه العقل، وهم يؤصلون في هذا أصولاً يتبنونها، ويقولون: عرفنا صدق الرسول صلى الله عليه وسلم بعقولنا، فالعقل هو الذي ميز بين الساحر والكاهن والمتنبي والنبي، عرفنا ذلك بعقولنا، فإذا كان أصل معرفة الرسول بالعقل فيكون العقل هو الأصل.

فلا يجوز أن يجعل الفرع حاكماً على الأصل، وهذا مبدأ اعتقادهم، هذا من ناحية، وهذا في الواقع ضلال، فالله جل وعلا يأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول: {وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} [سبأ:٥٠]، يعني: هداية الرسول صلى الله عليه وسلم بالوحي الذي جاءه من الله، ولا يمكن لأحد غير الرسول أن يهتدي بغير الوحي، لا يمكن أبداً، فالهدى لا يكون إلا بالوحي، ولكن العقل يكون مساعداً؛ لأن الوحي لا يأتي مخالفاً للعقل.

فالمقصود أن الواجب على العبد أن يتعرف على دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويعلم أن نجاته بها، ولن تكون له نجاة وهو يجعل عقله دليلاً، أو يجعل شيخه هو الذي يعرف الحق فقط ويترسم طريقه، والله جل وعلا يقول: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:٦٥]، وهذا عام شامل في العقائد وفي الأفعال وفيما يحدث من النزاع والشجار بين الخلق وفي كل شئون الحياة، يجب أن يكون الوحي هو الحاكم والمسيطر على عقيدتك وعلى عملك وعلى سلوكك وعلى معاملتك مع الناس، يجب أن يكون هو الحاكم المسيطر على ذلك، وإلا فيكون الإنسان على خطر شديد.