للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

حديث: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم) رواه أبو داود بإسناد حسن ورواته ثقات].

هذا الحديث من أدلة حمايته صلوات الله وسلامه عليه لجناب التوحيد حتى لا يخدش أو ينال بشيء يكدر صفوه، وحتى لا تكون العبادة فيها شيء لغير الله، قال: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا علي أينما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني) هذه الكلمات فيها إرشاد للأمة، وفيها حماية لعبادة الله جل وعلا، وصيانة لحق الله جل وعلا، ورأفة بالمؤمنين، ورحمة منه صلوات الله وسلامه عليه.

وقوله: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً) ليس المعنى: لا تقبروا الموتى في بيوتكم، هذا غير مقصود؛ لأن هذا ما أحد يعمله، لا أحد يجعل بيته مقبرة؛ لأن الإنسان إذا مات عنده الميت يضيق به ذرعاً، ويود بكل سرعة أن يخرجه من بيته، ويذهب به إلى المقابر، هذا شيء معروف عند الناس كلهم، وإنما المقصود: لا تعطلوا بيوتكم من الصلاة والذكر والتلاوة والعبادة، فتكون مثل المقبرة، وهذا يدلنا على أنه متقرر عند المسلمين من أول الأمر أن المقابر ليست محلاً للعبادات؛ ولهذا قال: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً) يعني: لا تجعلوها شبيهة بالقبور؛ ولهذا جاء في الحديث الثاني: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً فإن الشيطان يفر من البيت الذي تتلى فيه سورة البقرة)، فدل على أنه قصد بقوله: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً) تعطيلها من العبادة، لا تعطلوها من العبادة، وذلك أن القبور معطلة من العبادة، ما يتعبد أحد عندها، وليست محلاً لأن يعبد الله جل وعلا فيها، ومن فيها مرتهن ما يستطيع أن يعبد الله، ما يستطيع أن يستغفر، ما يستطيع أن يتوب، ما يستطيع أن يكتسب حسنة واحدة، أو يتوب عن سيئة واحدة؛ لأن الأعمال ختم عليها بالموت، إذا مات الإنسان انقطع عمله، أما ما جاء في صحيح مسلم أنه استثني من ذلك ثلاث، فالواقع أن الثلاث من عمله، يقول: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) فهذه من عمله في الواقع، الصدقة الجارية من عمله، وسميت جارية على حسب الوضع وإلا فلابد أن تنقطع في يوم من الأيام، ولكنها تستمر وقتاً ما ثم تنقطع.

أما العلم الذي ينتفع به فيقصد به التعليم، إذا كان يعلم الناس الخير بالنية الصالحة والقصد الحسن، لا أن يعلم الناس ويريد أن يثنوا عليه أو يحبوه ويمدحوه، فإن كانت هذه صفته فبئس الحالة حالته، فهو مأزور، ولا يكون له أجر، فضلاً عن أن يجري عليه هذا العمل، وكذلك إذا أبقى بعده علماً مكتوباً ينتفع به إذا كانت نيته صالحة أراد به وجه الله جل وعلا، وأراد الدعوة إليه، وبيان الحق، ونفع العباد، فهذا ينتفع بهذا العلم، أما إذا أراد النقود من كتب العلم، يريد أن يحصل الدنيا فليس له إلا ما حصل، وليس له إلا ما دخل في جيبه فقط، أما الذي يجرى عليه فهو أن يعذب نسأل الله العافية؛ لأن الذي يريد بالأعمال الصالحة عرضاً دنيوياً ليس له إلا النار، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أول من تسجر بهم النار ثلاثة: شهيد ومتصدق ومتعلم أو قال: عالم، فيؤتى بالشهيد فيقرر بنعم الله جل وعلا فيقر بها، فيقول الله جل وعلا له: ماذا صنعت؟ فيقول: يا رب! بذلت نفسي في سبيلك حتى قتلت، فيقول الله جل وعلا له: كذبت، بذلت نفسك ليقال: شجاع، جريء، وقد قيل، ثم يؤمر به فيسحب إلى النار) ما صار له من جهاده ومن قتله وإراقة دمه إلا قول الناس: هذا شجاع، هذا جريء، هذا مقدام، هذا فيه كذا وكذا، يعني: أجره المدح فقط، أما في الآخرة فهو من الخاسرين نسأل الله العافية، وذلك لأنه قصد الترفع على الناس، هذا قصده؛ لأنه إذا أثني عليه ومدح صار فوق الناس في ذلك.

(ويؤتى بالمتصدق ويقرر بنعم الله فيقرر بها) ومعنى يقرر أن تذكر له، ألم يخلقك الله ولم تكن شيئاً؟ فيقول: بلى، فيقول: ألم يجعل لك سمعاً وبصراً وعقلاً؟ فيقول: بلى يا رب، ألم يفضلك على كثير من خلقه؟ فيقول: بلى يا رب، ألم ينعم عليك بالنعم من الأرزاق؟ ألم يزوجك؟ ألم يجعل لك أولاداً؟ إلى غير ذلك من النعم، فيقر بها ولا يستطيع أن ينكر، ويقول: بلى يا رب، عند ذلك يقول: (ماذا صنعت؟ -يعني: ماذا عملت مقابل هذه النعم؟ -فيقول: يا رب! ما تركت باباً من أبواب الخير إلا أنفقت الأموال في سبيلك ابتغاء وجهك، فيقول الله: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، تبعاً لقول الله جل وعلا، ولكنك تصدقت ليقال: هو جواد، هو كريم، وقد قيل -يعني: قد أخذت أجرك من قول الناس - فيؤمر به فيسحب إلى النار.

ويؤتى بالعالم أو المتعلم، فيقرر بنعم الله فيقر بها، فيقول الله جل وعلا: ماذا صنعت فيها؟ فيقول: يا رب! تعلمت فيك العلم وعلمته، فيقول الله جل وعلا: كذبت، ولكنك تعلمت ليقال: هو عالم، وقد قيل -يعني: قد أخذت أجرك واستوفيته- فيسحب إلى جهنم)، هؤلاء أول من تسجر بهم جهنم.

وعالم بعلمه لم يعملن معذب من قبل عباد الوثن يلقى في جهنم قبل عباد الوثن نسأل الله العافية، وهو مسلم في الظاهر، بل عالم في الظاهر، فهكذا إذا كان الإنسان ترك علماً أو ترك صدقة جارية فإنه متوقف على نيته وقصده ومراده وإخلاصه، إن كان قصده صالحاً ونيته طيبة مخلصاً لله فليبشر بالخير، وإن كان العمل قليلاً، فإن الله جل وعلا يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} يعني: مثقال الذرة (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:٤٠].

إذا بقي للإنسان من الحسنات بعد المحاصة والمقاصة والموازنة مثقال ذرة ضاعفها الله جل وعلا له وأدخله بها الجنة.

إذاً: ليس الاهتمام بالكثرة، وإنما الاهتمام بالصفة، بالإخلاص، بالمقاصد، أن تكون نيته ومقصده لله جل وعلا، وأن يكون عمله موافقاً لسنة المصطفى صلوات الله وسلامه عليه، هذا هو أهم ما لدى الإنسان، فعلى هذا نقول: إن قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً) أمر منه صلى الله عليه وسلم بأن نجعل شيئاً من عبادتنا في البيوت، من الصلاة، ومن الذكر، والدعاء، وتلاوة القرآن، وغير ذلك، ولا يجوز أن يكون البيت محلاً لمأوى الشياطين نسأل الله العافية، والغناء، والصور، والأمور التي ترضي الشيطان، وتغضب رب العالمين، فإنه إذا كان كذلك فإنه يكون مأوى للشياطين، ولهذا يكثر تلبس الجن بكثير من الناس لأجل تعطيلهم ذكر الله جل وعلا، ولأجل كونهم لا يتلون آيات الله؛ ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم: (فإن الشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة)، فلا يمكن أن يدخل فيه، بل يهرب منه، فتلاوة القرآن تطرد الشياطين؛ ولهذا الأمر قال صلى الله عليه وسلم: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً) أي: لا تعطلوها من التلاوة ومن الصلاة ومن الذكر فتكون مثل القبور.