قال الشارح: [قلت: ولا يخالف في ذلك إلا جهال المقلدة؛ لجهلهم بالكتاب والسنة ورغبتهم عنهما، وهؤلاء وإن ظنوا أنهم قد اتبعوا الأئمة فإنهم في الحقيقة قد خالفوهم واتبعوا غير سبيلهم كما قدمنا من قول مالك والشافعي وأحمد، ولكن في قول الإمام أحمد رحمه الله إشارة إلى أن التقليد قبل بلوغ الحجة لا يذم، وإنما ينكر على من بلغته الحجة وخالفها لقول إمام من الأئمة.
وذلك إنما نشأ عن الإعراض عن تدبر كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والإقبال على كتب من تأخر والاستغناء بها عن الوحيين، وهذا يشبه ما وقع من أهل الكتاب الذين قال الله فيهم:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ}[التوبة:٣١]، كما سيأتي بيان ذلك في حديث عدي بن حاتم].
وقوله: إنه في الواقع مخالف للأئمة؛ لأن الأئمة حذروا من تقليدهم وترك الدليل، وقد صح عن الأئمة التحذير من ذلك، فـ الشافعي رحمه الله يقول:(إذا صح الحديث فهو مذهبي، وإذا وجدتم الحديث يخالف قولي فدعوا قولي وخذوا بالحديث)، وكذلك الإمام مالك قال:(كلنا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم) يعني: أن الحق الكامل مع الرسول صلى الله عليه وسلم فقط، أما من عداه فيجوز أن يقع عليه الخطأ وأن يُرد ويَرد، وكذلك قول أبي حنيفة رحمه الله:(إذا جاء الحديث فعلى الرأس والعين، وإذا جاءت أقوال الصحابة فعلى الرأس والعين، وإذا جاءت أقوال التابعين فنحن رجال وهم رجال) يعني: لا يلزمنا قول التابعين، ولكن قول الرسول صلى الله عليه وسلم لا يجوز أن يعارض برأي، وكذلك قول الإمام أحمد كما سمعنا.
فالذي يقلد الأئمة ويترك الحديث مخالف لهم؛ لأن هذه أقوالهم تخالف هذا المذهب، فهو غير متبع لهم في الواقع.
قال الشارح:[فيجب على من نصح نفسه إذا قرأ كتب العلماء ونظر فيها وعرف أقوالهم، أن يعرضها على ما في الكتاب والسنة، فإن كل مجتهد من العلماء ومن تبعه وانتسب إلى مذهبه لابد أن يذكر دليله، والحق في المسألة واحد، والأئمة مثابون على اجتهادهم، فالمنصف يجعل النظر في كلامهم وتأمله طريقاً إلى معرفة المسائل واستحضارها ذهناً وتمييزاً للصواب من الخطأ بالأدلة التي يذكرها المستدلون، ويعرف بذلك من هو أسعد بالدليل من العلماء فيتبعه].