للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[جهل أهل الكتاب بكلمة التوحيد]

[المسألة العاشرة: أن الإنسان قد يكون من أهل الكتاب وهو لا يعرفها، أو يعرفها ولا يعمل بها].

المقصود بقوله: [من أهل الكتاب] يعني: من العلماء.

فيمكن أن يكون من العلماء وهو لا يعرف معنى هذه الكلمة، أو أنه يعرفها ولكن لا يعمل بها، والعلم إذا لم يهتد به صاحبه فهو شر، ويكون حجة عليه وزيادة عذاب، وعذابه أشد من عذاب الذي لا يعلم، فالذي لا يدعوه العلم إلى أن يكون عبداً لله ولم يكن كلما علم شيئاً زادت عبوديته لله وزاد ذله وخضوعه له وزادت سكينته وتواضعه فإنه لا يزداد بعلمه إلا بعداً من الله جل وعلا.

وقد يكون لا يعرف الحق الذي أوجبه الله عليه، وليس المقصود أنه يكون من أهل الكتاب من اليهود والنصارى فقط، فقد قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة)، فلما سئل عن الواحدة قال: (من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)، فأخبر أن هذه الأمة تزيد على التفرق السابق بواحدة.

والمقصود بالأمة اليهودية التي افترقت على إحدى وسبعين، وبالأمة النصرانية التي افترقت على اثنتين وسبعين، وبأمة محمد صلى الله عليه وسلم التي افترقت على ثلاث وسبعين هي التي استجابت للرسل، ما هي بالأمة التي بعث فيها الأنبياء، بل الأمة المستجيبة، فالمسلمون أنفسهم يفترقون إلى هذه الفرق، أما غيرهم فما يقال: إنهم يفترقون على كذا وكذا.

أو إنهم في النار.

لأنه مفروغ منهم، فهم كفار في الأصل، فالكفر مهما تعددت طرقه ومناهجه فهو ملة واحدة، الكفر كله ملة واحدة، فإذا كان الأمر هكذا فكل من تشبه باليهود أو بالنصارى من هذه الأمة فهو ملحق بهم، وقد أخبرنا رسولنا صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة ستترسم طريق اليهود والنصارى شبراً بشبر فقال: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة)، والقذة: هي ريشة السهم.

يعني: مثل الرصاصة التي توضع الآن في البندق، هل الواحدة تختلف عن الأخرى؟ لا تختلف، كل واحدة مثل الأخرى، يعني أنكم تسيرون خلفهم متبعين لهم كما ساروا (حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)، ومثل صلوات الله وسلامه عليه بجحر الضب لأن جحر الضب من أصعب الجحور؛ لأنه يحفر جحراً ملتوياً، فهو يتلوى في حفره، لا يحفر جحراً مستوياً كما في سائر الجحور، فالدخول فيه صعب جداً، فيقول: لو قدر أنهم يسلكون هذا المسلك المعوج الضيق الصعب لسلكتم خلفهم.

حتى إنه جاء في بعض الروايات: (حتى لو كان فيهم من يأتي أمه علانية لكان في هذه الأمة من يفعل ذلك) مبالغة في اتباعهم، والواقع يشهد لما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، فإننا نرى المسلمين -وللأسف- يتأسون باليهود والنصارى في كل شيء، في اللباس، وفي المركب، وفي الهيئة، وفي المأكل، وفي المشرب، حتى تجد أن كثيراً من الناس يأكل بشماله؛ لأنه رآهم يأكلون بشمائلهم، يقتدي بهم، وربما يتدين بأنه يأكل بالشمال، ويرى أن هذا تقدم وأن هذا تطور، ويتزين بذلك -نسأل الله العافية-، وهذا انحطاط في الواقع ومهانة، فإن المسلم يجب أن يكون معتزاً بإسلامه، وتجد بعضهم يأتي بالكلاب ويضعها في البيت أو يضعها في السيارة، وما هناك حاجة لها إلا أنه رأى أولئك يصنعون هذا الشيء فصار يقتدي بهم.

وهكذا في كل شيء إذا نظر الإنسان بعينه واعتبر فإنه يرى ما وقع في الأمة مما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، والذي لم يقع سيقع، فالرسول صلى الله عليه وسلم يخبرنا بهذا من باب التحذير، يحذرنا ويقول: إياكم أن تسلكوا هذه المسالك، لا تفعلوا كما فعلوا.

وفي مسند الإمام أحمد رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بعثت بين يدي الساعة، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم).

فالواقع يشهد بما نطق بهذا الحديث، فالمسلمون لما كانوا مترسمين طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا أعزة وأقوياء ولهم هيبة وسيطرة، فكلما ابتعدوا عن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلوا وسقطت هيبتهم وتسلط عليهم الأعداء وكثر تفرقهم وتشتت القلوب؛ فإن من أعظم المصائب أن تصاب قلوب المسلمين، ويصبح كل واحد يبغض الآخر، ويصبح كل واحد عدواً للآخر، وقد يكون نهجهم سواء في العلم وفي العمل، ولكن تنافسوا في الدنيا أو في المناصب أو في غير ذلك فسلط الله جل وعلا عليهم الذلة لكونهم تركوا السنة التي جاء بها رسولهم صلى الله عليه وسلم، وكلما تركوا سنة استحدثوا بدعة أو مخالفة يعاقبون بها؛ فإن سنة الله جل وعلا أنه يعاقب من يعرفه أكثر من عقاب من لا يعرفه، كما في الأثر القدسي: (إذا عصاني من يعرفني سلطت عليه من لا يعرفني) -نسأل الله العافية- فيصبحون -مثلما قال في الحديث الآخر-: (غثاء كغثاء السيل)، فإنه صلى الله عليه وسلم قال: (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها.

قالوا: أومن قلة نحن يا رسول الله؟! قال: لا.

أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل)، وغثاء السيل هل فيه نفع وفائدة؟ لا.

والغثاء الذي يرمي على جانب الوادي ما فيه خير، يقول: (ولكنكم غثاء كغثاء السيل، تنزع من قلوبكم المهابة ويقذف فيها الوهن.

قالوا: وما الوهن -يا رسول الله-؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت) كراهية الموت للرغبة في الدنيا، إذا حصلت رغبة في الدنيا كره الناس الموت؛ لأنهم عمروا دنياهم وأفسدوا آخرتهم، ومن كان بهذه المثابة يكره الموت؛ لأنه يعرف أن مستقبله غير مرضي عنه، فما يرضى بعمله الذي عمله للمستقبل، يخاف ويكون كالهارب الذي يؤتى به مقيداً إلى سيده، أو يؤتى به مقيداً إلى سلطانه، يكون مثل هذا خائفاً.

والمقصود أن العباد يجب عليهم أن يتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن من كان يريد العزة فالعزة لله، العزة في طاعة الله، وطاعة الله في اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم.