للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[بيان خبث المنافقين واليهود ونقضهم للعهود]

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال الشعبي: كان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود خصومه، فقال اليهودي: نتحاكم إلى محمد لأنه عرف أنه لا يأخذ الرشوة، وقال المنافق: نتحاكم إلى اليهود لعلمه أنهم يأخذون الرشوة، فاتفقا أن يأتيا كاهناً من جهينة، فيتحاكما إليه، فنزلت: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ} [النساء:٦٠] الآية.

وقيل: نزلت في رجلين اختصما، فقال أحدهما: نترافع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الآخر: إلى كعب بن الأشرف ثم ترافعا إلى عمر رضي الله عنه، فذكر له أحدهما القصة فقال للذي لم يرض برسول الله صلى الله عليه وسلم: أكذلك؟ قال: نعم، فضربه بالسيف فقتله].

هذا الأثر مشهور ذكره المفسرون في تفسيرهم في بيان سبب النزول، ومن المعلوم المتقرر عند العلماء أنه لا يُعتبر بسبب النزول، وإنما العبرة بعموم اللفظ، أي: أن اللفظ يكون عاماً للأمة كلها من أولها إلى آخرها، وإن كانت الآية نزلت في رجل أو رجلين أو جماعة، فإن هذا لا يُقصر عليهم، وإنما كل من فعل فعلاً يدخل تحت هذا العموم فهو داخل في ذلك، وكون اليهود يعرفون أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقضي بالحق ويقوله هذا أمر يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، ولهذا كانوا يتحاكمون إليه؛ لأنهم يعلمون أنه يقول الحق ويحكم به، ولكن المنافق هو الذي يأبى هذا، والمنافقون هم الذين يأبون ذلك لأنهم نفعيون يريدون أن تحصلوا على ما ينفع نفوسهم وعلى الأمور العاجلة، ويبذلون في سبيل ذلك الرشاوي وغيرها حتى يحصل لهم مرادهم، أما أهل الحق فلا يُقبل ذلك عندهم.

وكذلك إذا كان التحاكم إلى الطاغوت وإلى الكهنة فهو داخل في هذا، فلما أرادا التحاكم إلى كاهن في جهينة كان أيضاً داخلاً فيه، ومن ذلك أيضاً التحاكم إلى كعب بن الأشرف اليهودي؛ لأنه من الطواغيت، وقد عرف بمعاداته لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، وانتقض عهده في ذلك، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتله، فإنه لما جاء البشير من وقعة بدر بأن النصر وقع للرسول صلى الله عليه وسلم وللصحابة، وأن صناديد قريش قد قتلوا، وأنه أُسر منهم من أُسر طار عقله وصار يقول: أحق هذا؟ لئن كان هذا حقاً لبطن الأرض خير من ظهرها، ثم لما تأكد ذلك اغتم غماً شديداً، وذهب إلى قريش وصار يؤلبهم، وكان شاعراً، فجعل يقول الشعر يحضهم على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويرثي قتلاهم، ويخبرهم بأنهم خير من محمد صلى الله عليه وسلم، وأن دينهم أفضل، وببعض هذا ينتقض عهده.

ثم العجيب أنه لما نزل على امرأة من قريش جعل رحله عندها وصار يتكلم بمثل هذا الكلام، فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم حسان بن ثابت وقال له: إنه نزل عند فلانة.

فقال حسان فيها شعراً، فلما بلغها ذلك أخذت رحله ورمته، وقالت: هذا يهودي يهجونا حسان بسببه.

ثم كلما نزل عند قوم أرسل إليهم حسان أشعاراً يهجوهم بها، حتى تبرءوا منه وطردوه، فجاء إلى المدينة، فصار يقول الأشعار، ويشبب بنساء المسلمين، ويهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: من لي بـ كعب بن الأشرف فقد آذى الله وآذى رسوله؟ فقال له محمد بن مسلمة: أنا له، أتحب أن أقتله؟ قال: نعم، فقال: ائذن لي أن أقول، فقال: قل، فذهب إليه هو وجماعة من إخوانه، فأروه بأنهم كرهوا ما عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، فقالوا له: أمرنا هذا الرجل بالصدقة، واحتجنا وجئنا إليك لتسلفنا أو تبيعنا إلى أجل، وقد عنانا فلما سمع مثل هذه الكلمة فرح وقال: أجل، والله! لتملنه، فقالوا: إنا نكره أن نتركه حتى نرى ماذا يصير إليه، ولكن نريد أن تعطينا ونرهنك رهينة، قال: ماذا ترهنوني؟ ارهنوني أبناءكم، فقالوا: تعيرهم العرب، فيقال لأحدهم: رهن بكذا من الطعام، فقال: ارهنوني نساءكم، فقالوا: هذا عار علينا، وأنت أجمل العرب، ولا يمكن أن نرهنك نساءنا فيفتن بك، ولكن نرهنك السلاح، فقال: نعم، فوعدوه أن يأتوا إليه، ويأتوا أيضاً بغيرهم.

فجاءوه ليلاً، وكان مع زوجته في حصنه، فدعاه محمد بن مسلمة وهو عند زوجته، فقام فأمسكت ثوبه فقالت: والله إني لأسمع صوتاً كأن الدم يقطر منه، فقال: دعيني؛ فإن الكريم لو دعي إلى طعنة لأجاب، هذا محمد بن مسلمة ورضيعه أبو نائلة، فكان محمد بن مسلمة قد اتفق معهم فقال: إذا نزل سوف أمسك رأسه ثم عليكم به، فلما نزل قال له محمد بن مسلمة: ما رأيت كالليلة طيباً أحسن منك، فقال: أجل! فعندي أعطر نساء العرب، فقال: أتأذن لي أن أشم؟ فقال: نعم، فأخذ رأسه فشمه ثم أرسله ليأمن، ثم قال: أتأذن لي أن أعود قال: نعم، فأمسك رأسه وقال: دونكم الخبيث، فضربوه حتى قتلوه.

فأتوا إلى رسول صلى الله عليه وسلم وأخبروه بذلك.

فالمقصود أنه انتقض عهده لكونه صار يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك يهجوه ويهجو المسلمين، ولهذا أخذ العلماء من هذه القصة أن كل من سب الرسول صلى الله عليه وسلم يجب أن يقتل سواء أكان له عهد أم ليس له عهد.

قال رجل عند علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لم يكن قتل كعب بن الأشرف إلا خديعة -أو قال: خيانة- فأمر به فقتل؛ لأنه قتل بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس ذلك خديعة ولا خيانة، وإنما لأنه خبيث صار يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويهجو المسلمين، وكذلك يشبب بنسائهم، والمعاهدة التي وقعت بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين اليهود على المناصرة على كل من قصد المدينة، فإذا فعلوا شيئاً مما يخلف ذلك ينتقض عهدهم.

وهذه الواقعة كانت في السنة الثالثة من الهجرة، وقتله كان في ربيع الثاني في ليلة أربع عشرة منه كما ذكره المؤرخون وأهل السير، وقد فرح الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، والصحابة كانوا يتسابقون على قتل من يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما هو معروف، وكما ذكر قصصهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه (الصارم المسلول على من سب الرسول صلى الله عليه وسلم).