للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حماية النبي صلى الله عليه وسلم لجناب التوحيد]

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وروى الطبراني بإسناده: أنه (كان في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم منافق يؤذي المؤمنين، فقال بعضهم: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنه لا يُستغاث بي وإنما يُستغاث بالله)]: هذا الحديث رواه الطبراني عن عبادة بن الصامت، وجاء في بعض الروايات أن المنافق هو: عبد الله بن أبي، وأن القائل: (قوموا بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نستغيث به من هذا المنافق) هو أبو بكر الصديق، والأذية كانت باللسان وبالقول، ولم تكن باليد أو بشيء يناله من أجسادهم؛ ولكن كان يقول قولاً يؤذي فيه المؤمنين، كما هو الحال مع المنافقين كثيراً، أما أن يؤذيهم بفعله: فهذا ما كان أحد من المنافقين يقدر عليه.

وقوله: (قوموا بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نستغيث به من هذا المنافق) يعني: أن يوبخه أو يعاقبه؛ لأنه يقدر على ذلك؛ ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم كره لهم هذا اللفظ -لفظ الاستغاثة- صيانةً للتوحيد، وحمايةً لجنابه أن يُخدش أو يناله شيء من النقص، وإلَّا فقولهم صحيح وجائز؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يقدر على ما طلبوا منه، والاستغاثة في الشيء المقدور عليه جائزة.

ولا تعارض ولا إشكال بين هذا الحديث وبين قوله جلَّ وعلا عن موسى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص:١٥]؛ لأن الآية تُدل على الجواز في الشيء المقدور عليه، والحديث يدل على الكراهة فقط، والكراهة في الشيء المقدور عليه كراهة اللفظ -لفظ الاستغاثة- مع جواز ذلك، فهو صلوات الله وسلامه عليه جعل هذا من باب الحماية -حماية جناب التوحيد- والصيانة أن يُدخَل عليه النقص من الشيء الذي يجوز، فقال لهم: (إنه لا يُستغاث بي وإنما يُستغاث بالله تعالى) وليس معنى هذا نفي الاستغاثة مطلقاً، وإنما صيانةً أن يقع الموحد في الشيء الذي لا يجوز، وهذا له نظائر سيأتي التنبيه عليها -إن شاء الله- فيما بعد.

إذاً: فالرسول صلى الله عليه وسلم يستطيع أن يغيثهم؛ لأنه حي حاضر، ويستطيع أن يأمر بعض المؤمنين بضربه، أو منعه، أو حبسه، أو حتى إخراجه من البلد، كما وقع له في بعض غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد نزل فيه قرآن حينما حدث بين الغلامين -الأنصاري والمهاجري- منازعة عند الماء وهم في سفر، والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نازلون، وكان الماء فيه شح، فقال أحدهما: (يا لَلأنصار! وقال الثاني: يا لَلمهاجرين! فسمعوا هذا القول وسمعه عبد الله بن أبي بن سلول -رأس المنافقين- فقال: ما مثلنا ومثل هؤلاء إلَّا كقول القائل: سمِّن كلبك يأكلك: (لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ)، وقال: لا تنفقوا عليهم لقد أوسعتموهم في النفقات وفي المساكن وفي كذا وكذا حتى أصبحوا يُزاحموننا في أرزاقنا وفي أماكننا، وأصبحنا نستغيث منهم، فذهب ذاهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما قال -وكانت عادته صلوات الله وسلامه عليه أنه إذا حدث مثل هذا الأمر بادر بإطفائه- فأمر بالمسير في وسط النهار في وقت ما كانوا يسيرون فيه، وانتشرت الأخبار بأن الرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن يقتل عبد الله بن أبي، وسمع ابنه عبد الله ذلك فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! أتريد أن تقتل أبي؟ فقال: من الذي أخبرك؟ فقال: إن كنت تريد أن تقتله فأمرني أقتله؛ لأنني أخشى أن يقتله غيري فلا يتسع صدري في أن أنظر إلى من قتل أبي، فأخشى أن أهلك -يعني: أن أقتل قاتله فأهلك- قال: أوَتفعل ذلك؟ قال: نعم.

فقال: لا.

ولكن نحسن صحبته، فلما وصلوا إلى المدينة أخذ ابنه السيف ووقف أمامه، وقال: والله لا تدخلها حتى تشهد على نفسك أنك الأذل، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأعز والمؤمنين).

فالمقصود: أنه صلوات الله وسلامه عليه كان يستطيع أن يغيثهم من هذا المنافق، ومع ذلك كره لهم هذا القول، وقال ذلك القول، وهذا يكون من باب الصيانة والحماية لجناب التوحيد، ومن باب الكراهة فقط مع الجواز.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وروى الطبراني بإسناده أنه (كان في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم منافق يؤذي المؤمنين فقال بعضهم: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وآله من هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنه لا يُستغاث بي وإنما يُستغاث بالله).

قال الشارح: الطبراني: هو الإمام الحافظ سليمان بن أحمد بن أيوب اللخمي الطبراني صاحب المعاجم الثلاثة وغيرها، روى عن النسائي وإسحاق بن إبراهيم الدبري وخلق كثير، مات سنة ستين وثلاثمائة.

روى هذا الحديث عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه.

قوله: أنه (كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين) لم أقف على اسم هذا المنافق]: الذي قال: (لم أقف على اسم هذا المنافق) صاحب الشرح المسمى تيسير العزيز الحميد -وفتح المجيد اختصار لذلك الشرح- وقد ذكر غيره -ممن وقف عليه- أنه: عبد الله بن أبي.

قال الشارح رحمه الله تعالى: [قلت: هو عبد الله بن أبي؛ كما صرح به ابن أبي حاتم في روايته.

قوله: (فقام بعضهم) أي: الصحابة رضي الله عنهم، هو: أبو بكر رضي الله عنه.

قوله: (قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من هذا المنافق) لأنه صلى الله عليه وسلم كان يقدر على كف أذاه.

قوله: (إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله) فيه: النص على أنه لا يستغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم ولا بمن دونه، كره صلى الله عليه وسلم أن يُستعمل هذا اللفظ في حقه -وإن كان فيما يقدر عليه في حياته- حمايةً لجناب التوحيد، وسداً لذرائع الشرك، وأدباً وتواضعاً لربه، وتحذيراً للأمة من وسائل الشرك في الأقوال والأفعال].

بما أن هذا جائز فهو غير ممنوع، والحديث لا يدل على المنع، فالاستغاثة جائزة فيما يقدر عليه المستغاث به، إذا كان حياً حاضراً سامعاً وقادراً، فهذا لا بأس به، كالذي -مثلاً- يهاجمه سبع، وعنده من يقدر أن يعينه، فيستغيث به قائلاً: أغثني من هذا السبع، أو -مثلاً- عنده شيء لا يستطيع حمله، وعنده من يساعده، فيقول: أغثني على حمل هذا الشيء، أو -مثلاً- إنسان يمشي على رجليه، فيأتي من معه سيارة أو ما أشبه ذلك فيقول: أغثني فأركبني، فإن هذا جائز؛ لأنه يستطيع فعل ذلك الطلب؛ ولكن لا يقال: (أغثني)، أو (أستغيث بك) كراهة؛ لأنه يخشى أن تحمل هذه اللفظة معها ما لا يجوز، والرسول صلى الله عليه وسلم حريص على نجاة أمته، رءوف رحيم بهم، فالشيء الذي يمكن أن يدخل الشيطان عليهم منه منعه، ونهى عنه؛ سداً للذرائع فقط، وليس لأن هذا الفعل -مثلاً- بعينه محرم، أو أنه لا يجوز أصلاً، وإنما لذلك الغرض الذي ذكرناه.