للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أنواع الظلم]

قال الشارح رحمه الله: [ففي الآية بيان أن من أشرك مع الله تعالى غيره في المحبة فقد جعله شريكاً لله في العبادة، واتخذه نداً من دون الله، وأن ذلك هو الشرك الذي لا يغفره الله تعالى كما قال تعالى في أولئك: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:١٦٧] وقوله: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} [البقرة:١٦٥] المراد بالظلم هنا الشرك كقوله تعالى: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام:٨٢] كما تقدم.

فمن أحب الله وحده وأحب فيه وله فهو مخلص، ومن أحبه وأحب معه غيره فهو مشرك كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:٢١ - ٢٢].

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ما معناه: فمن رغب إلى غير الله في قضاء حاجة أو تفريج كربة لزم أن يكون محباً له، ومحبته هي الأصل في ذلك.

انتهى كلامه رحمه الله].

كون الظلم في هذه الآية هو الشرك أظهر منه في آية سورة الأنعام: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام:٨٢]؛ لأن الآية هذه مبدأها في نفي الحب الذي يكون لوجه الله جل وعلا، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ)) [البقرة:١٦٥]، وقوله: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} [البقرة:١٦٥] يعني: الذين وزعوا محبتهم بين الله جل وعلا وبين هذه المتخذة آلهة من دونه.

والظلم يطلق على كل معصية يخالف بها الإنسان أمر الله جل وعلا سواء بارتكاب منهي أو ترك واجب، فإنه ظلم، وقد علم أن الظلم ينقسم إلى أقسام: ظلم بين العبد وبين ربه كأن يترك واجباً من الواجبات أو يرتكب محرماً من المحرمات مما لا يتعلق بإنسان كأخذ مال، أو استطالة عرض وما أشبه ذلك، فهذا يكون بين العبد وبين ربه فقط، وهذا هو أسهل أنواع الظلم وأيسرها؛ لأن الله جل وعلا غفور رحيم، وإذا قدم العبد على ربه وكان ظالماً وغير مشرك، فإن كل ظلمه سوف يغفره الله جل وعلا إذا شاء ولا يبالي.

كله معلق بمشيئته، إذا شاء غفره بدون مؤاخذة ومعاقبة، وإذا أخذ به فمجرد عقاب مؤقت، ثم بعد ذلك يكون مآله إلى الجنة، هذا إذا كان الظلم في ترك واجب أو فعل محرم.

أما النوع الثاني من الظلم فهو الظلم الذي يكون بين العباد بعضهم لبعض، وهو أيضاً إما أن يكون بفعل محرم أو الامتناع من أداء واجب وجب عليه لأخيه، فهذا مبناه على المشاحاة والمقاصاة، ولا يترك الله منه شيئاً إلا أن يعفو صاحب الحق، فإن لم يعف صاحب الحق فلا بد من أداء الحق إلى صاحبه حتى الذين يكونون من أهل الجنة وينجون من الحساب، فإن الذين يبقى عليهم حقوق لبعضهم البعض، ولو جاوزوا الصراط فإنهم لا يدخلون الجنة حتى تحصل المقاصاة، وأخذ المظالم من بعضهم لبعض كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبر أن أهل الجنة إذا عبروا الصراط، وصاروا إلى باب الجنة، حبسوا في قنطرة بين الجنة والنار، يحبسون ولا يدخلون الجنة حتى يؤخذ لبعضهم من بعض، وينزع ما في صدورهم من غل، فإذا صاروا إخواناً متحابين دخلوا الجنة، ولا يدخلون الجنة ولأحد على أحد شيء، فهذا أقل أنواع الظلم التي تكون لبعضهم على بعض.

أما أصحاب المظالم العظيمة فلا يأتون إلى الصراط ولا يتجاوزنه حتى يؤخذ لصاحب الحق حقه، وقد جاءت أحاديث كثيرة تحذر عن الوقوع في مثل هذا، فقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل يوماً أصحابه: (أتدرون من المفلس فيكم؟ قيل: المفلس من لا درهم عنده ولا دينار، قال: كلا، المفلس من يأتي يوم القيامة بحسنات كثيرة أمثال الجبال، ولكنه يأتي وقد شتم هذا، وقد استطال على عرض هذا، وقد أكل مال هذا، فيؤخذ لهذا من حسناته، ولهذا من حسناته، فإذا فنيت حسناته أخذ من سيئاتهم، ثم طرحت عليه، ثم طرح في النار) هذا هو المفلس، يأتي بالحسنات ولكن تكون لغيره، الحسنات التي يعملها تكون للناس الآخرين وليست له؛ لأنه كان يظلمهم، وتمتع في دنياه بظلمهم، إما بتمزيق أعراضهم، أو بأكل أموالهم، أو بمنع حقوقهم التي وجبت لهم عليه، فإنهم لا بد أن يطالبوه بذلك، ولا بد أن تؤدى الحقوق إلى مستحقيها.

أما النوع الثالث فهو أشد أنواع الظلم وأعظمها وهو ظلم الشرك، فهذا الظلم إذا مات عليه الإنسان فإنه ليس معه اهتداء ولا أمن، منفي عنه الأمن مطلقاً؛ لأن الله جل وعلا قد فصل الأمر في هذا ووضحه، وأخبر أن من يموت مشركاً فإن مأواه جهنم، وأنه من أهل النار، وليس بخارج منها، وأن الله جل وعلا يغفر كل ذنب إذا شاء أن يغفره إلا الشرك، قال جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:٤٨] هذا عام شامل حتى يدخل فيه ظلم العباد بعضهم مع بعض، إذا شاء الله جل وعلا أرضى صاحب الحق عمن ظلمه، يرضيه فيعفو عنه، ويغفر الله جل وعلا لهذا الظالم، أما إذا كان مشركاً فإنه لا يغفر له.

ومن هنا يتبين لنا شدة الحاجة إلى معرفة الشرك لئلا يقع الإنسان فيه وهو لا يدري، وكم وقع فيه من يكتب مثلاً تفسيراً لكتاب الله، أو يكتب شرحاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يكتب في الأصول أو في غيرها، ومع هذا يقع في الشرك الأكبر! نسأل الله العافية؛ وذلك لأن الإنسان إذا عاش في مجتمعٍ لا يعرف الشرك، فإنه ربما دخل عليه وهو لا يدري كما جاء عن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أنه قال: أتدري متى تنقض عرى الإسلام عروة عروة؟ قيل له: متى؟ قال: إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية، يعني: أنهم يقعون في المخالفات وفي المنكرات، وهم يظنون أنها ليست كذلك.

فيتعين على العبد -لما ذكر الله جل وعلا أنه لا يغفر هذا الذنب- أن يتعرف على الشرك خوفاً من الوقوع فيه، فهذا هو أعظم أنواع الظلم؛ وذلك لأن الإنسان إذا وقع فيه، ومات عليه؛ فإنه ميئوس منه نهائياً، ومقطوع بأنه من أهل النار قطعاً لخبر الله جل وعلا بذلك الخبر البين الذي ليس فيه إشكال.

أما قول الله جل وعلا: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:٥٣]، فقوله: {يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} هذا ما ترك شيئاً: الشرك وغير الشرك، فهذه الآية في الإنسان الذي يتوب، فالتائب من الذنب مهما كان الذنب فإن الله يغفره بالتوبة إذا كانت التوبة صحيحة، فإذا كانت صحيحة مجتمعة فيها الشروط فإن الله جل وعلا يغفر لهذا المذنب وإن كان ذنبه شركاً.

وشروط التوبة هي: أن تكون التوبة في الحياة قبل أن يعاين الموت.

وأن تكون التوبة تتضمن: الندم، والإقلاع عن الذنب، والعزم ألا يعود إلى الذنب أبداً ما دام حياً.

إذا اجتمعت هذه الأمور فإن التوبة تكون نصوحاً، ويقبلها الله جل وعلا، ويحب جل وعلا من اتصف بها.

وإذا كان الذنب في حق للغير، فإنه يشترط أيضاً إرجاع هذا الحق إلى صاحبه، وإلا لا تصح هذه التوبة منه، لا تصح إلا أن يرجع الحق إذا استطاع إلى صاحبه، أو يتحلله حتى يجعله في حل، فيسامحه من قلبه أما أن يحله بلسانه وقلبه مصر على عدم مسامحته فهذا لا يفيد.

فالمقصود أن هذه هي أنواع الظلم، وهنا الظلم المذكور هو الشرك؛ لأن الكلام في الشرك.