[بيان ما تدل عليه كلمة الإخلاص]
قال الشارح رحمه الله: [قلت: وأفاد الحديث أن الإنسان قد يقول: لا إله إلا الله، ولا يكفر بما يعبد من دون الله، فلم يأت بما يعصم دمه وماله كما دل على ذلك الآيات المحكمات والأحاديث.
قوله: وشرح هذه الترجمة ما بعدها من الأبواب].
يعني: أنه سيذكر بعد هذا الباب أبوباً كثيرة كلها توضح هذا المعنى وتبينه، والترجمة هي قوله: باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله، ثم لما ذكر الآيات والحديث قال: وشرح هذه الترجمة ما بعدها من الأبواب يعني: أن الأبواب التي ستأتي بعضها في ذكر بعض الشركيات، وبعضها في ذكر بعض التعلقات على غير الله، وكلها تبين معنى لا إله إلا الله وتفسره؛ لأن الأمور تتبين بأضدادها، وسيبدأ بعد ذلك بحكم الذي يعلق تميمة أو يتبرك بشجرة أو حجر أو قبر، يطلب نفعه أو دفع الضر، بدء بهذا لأن هذا من الشرك الواضح الجلي، وهو أيضاً يفسر لا إله إلا الله كما سيأتي.
قال الشارح رحمه الله: [قلت: وذلك أن ما بعدها من الأبواب فيه ما يبين التوحيد ويوضح معنى: لا إله إلا الله، وفيه أيضاً: بيان أشياء كثيرة من الشرك الأصغر والأكبر، وما يوصل إلى ذلك من الغلو والبدع مما تركه من مضمون لا إله إلا الله، فمن عرف ذلك وتحققه تبين له معنى لا إله إلا الله، وما دلت عليه من الإخلاص ونفي الشرك، وبضدها تتبين الأشياء، فبمعرفة الأصغر من الشرك يعرف ما هو أعظم منه من الشرك الأكبر المنافي للتوحيد، وأما الأصغر فإنما ينافي كماله، فمن اجتنبه فهو الموحد حقاً، وبمعرفة وسائل الشرك -والنهي عنها لتجتنب- تعرف الغايات التي نهى عن الوسائل لأجلها، فإن اجتناب ذلك كله يستلزم التوحيد والإخلاص بل يقتضيه، وفيه أيضاً من أدلة التوحيد إثبات الصفات وتنزيه الرب تعالى عما لا يليق بجلاله، وكل ما يعرف بالله من صفات كماله وأدلة ربوبيته يدل على أنه هو المعبود وحده، وأن العبادة لا تصلح إلا له، وهذا هو التوحيد، ومعنى شهادة أن لا إله إلا الله].
الله جل وعلا أخبر أنه هو الخالق وحده، وهو الذي خلق السماوات والأرض، وهو الذي ينزل المطر وينبت النبات، وهو الذي يجب أن تكون العبادة له، وكل هذا من الكمالات التي يجب أن تعتقد لله جل وعلا.
وإذا صرف من ذلك شيء لغيره فإنه تنقص لله جل وعلا، فالمشرك الذي يدعو غير الله من مقبور أو أحجار أو غيرها هو يتنقص الله جل وعلا بما ينافي كماله؛ لأنه هو الإله وحده، وكونه يتعلق بغيره فإنه يصرف حقه لغيره؛ ولهذا إذا ذكر الله جل وعلا الشرك يقول: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الطور:٤٣] ينزه نفسه عن شركهم؛ لأن الشرك تنقص لله جل وعلا، ودل على أنه يجب أن تثبت له صفات الكمال، وهذا من باب المفهوم، وقد جاءت نصوص من كتاب الله جل وعلا وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم في وجوب اعتقاد اتصاف الرب جل وعلا بالصفات التي نص عليها، والتي تعرف بها إلى عباده؛ لأنه جل وعلا غيب، لا يطلع عليه أحد، ولم يره أحد، وإنما تعرف إلى عباده بأوصافه التي يصف نفسه بها، أو يصفه رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومنها: كونه جل وعلا الإله وحده، والتأله له وحده، ومنها: كونه جل وعلا الخالق وحده، والرازق وحده، لا شريك له في ذلك، ومنها كونه جل وعلا مستوياً على عرشه، عالياً على خلقه، ومنها كونه جل وعلا عالماً بكل شيء لا يخفى عليه شيء، يعلم ما في ضمائر عباده، وما يكنون في قلوبهم، ومنها: كونه جل وعلا يحب المؤمنين، والتوابين، والمتطهرين، ومنها: كونه جل وعلا كلم رسله وأنزل كلامه عليهم الذي هو نور وهدى لمن آمن به واتبعه، إلى غير ذلك من أوصافه التي جاءت في كتاب الله جل وعلا وفي أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم وهي من التوحيد.
ولهذا السبب قسم العلماء التوحيد إلى أقسام ثلاثة: القسم الأول: توحيد الربوبية الذي يدل على أنه من فعل الله جل وعلا وحده كالخلق والرزق والأمر والنهي والشرع أي: أنه هو الذي يشرع وحده، فمن نازع الرب جل وعلا في شرع يضعه للناس فقد جعل نفسه شريكاً لله جل وعلا، ومن اتبع الشرع الذي يشرعه المخلوق فقد اتخذ رباً غير الله جل وعلا، فهذا من خصائص الربوبية.
القسم الثاني: توحيد الأسماء والصفات، مثل عليم وحليم وكريم، وكونه جل وعلا يسمع ويرى، وأنه مع عباده جل وعلا، يعلم ما في ضمائرهم ويشاهدهم، ولا يخفى عليه خافية، وهو محيط بهم، وهم في قبضته، وكونه جل وعلا له وجه كما وصف جل وعلا نفسه بذلك، وله يدان، وأنه يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، وأن الإنسان إذا تصدق بصدقة من كسبٍ طيب -والله لا يقبل إلا طيباً- فالله يتقبلها بيمينه جل وعلا فيربيها لصاحبها حتى تكون مثل الجبل وإن كانت تمرة، إلى غير ذلك من الأوصاف التي يذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم للمؤمنين ليؤمنوا بها، هذا يسمى توحيد الأسماء والصفات.
القسم الثالث: توحيد العبادة التي تصدر من العباد أنفسهم: نحو الدعاء والرجاء والخوف والإنابة والنذر وغير ذلك.
وهذه الأقسام مترابطة، لا ينفك بعضها عن بعض؛ فمن أتى بقسم منها ولم يأت بالبقية لا يصح دينه، ولا يصح إسلامه، فلا بد منها جميعاً.