للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[وجوب الوفاء بالعهد]

قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: (ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه)].

قلنا فيما سبق في الباب الذي قال فيه: (باب: قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:١٨٠]) إن هذا بدء بفن جديد من نوع جديد من أنواع التوحيد، ولا يزال مستمراً فيه إلى آخر الكتاب، فهنا يقول: (ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه صلى الله عليه وسلم) والمقصود بالذمة: العهد الذي يعطيه الإنسان، مثل أن يقول: عليّ عهد الله أني ما أفعل كذا وكذا، أو أني أفعل كذا وكذا، وهذه العهود تكون بين الأمم غالباً، وتكون بين القبائل والجماعات التي تعقد العهود بالمواثيق، وقد تكتب العهود كتابة، فإذا أعطي عهد الله في مثل هذا فالأمر فيه صعب جداً، ومن خان ذلك فقد خان الله، ومن يخن الله فقد باء بالسخط والغضب، والله لا يترك من أخفر ذمته.

المقصود من هذا: تعظيم الله وتوقيره وتقديره حق قدره، والابتعاد عن مساخطه، وهذا من معاني ربوبيته جل وعلا؛ لأن معنى الرب: المالك المتصرف الذي ينفذ أمره في الخلق، ويجب أن يكون أمره هو المطاع، وأن يوقف عند الذي منع منه ولا يُتجاوز، فإن الإنسان إذا لم يفعل ذلك فقد تجرأ جرأة عظيمة، ويوشك الله أن يأخذه عاجلاً في الدنيا قبل الآخرة.

ثم إنه أراد بهذا: أن الإنسان يعلم هذا الشيء ويجتنبه، فإذا قدر أنه وقع بينه وبين غيره عهود وذمم فعليه أن يبذل ذمته هو، فيقول: أعطيك ذمتي ولا أعطيك ذمة الله وذمة رسوله، بل تكون ذمتي بيني وبينك.

فإذا وقع الخلاف -وإن كان عظيماً- فإنه يكون في ذمته، وهذا أسهل من أن يكون وقع خلاف في ذمة الله وذمة رسوله، وهذا في العهود الجماعية التي تكون -مثلاً- في الحروب بين قوم وآخرين، والحرب يكون لها قائد، والقائد هو الذي ينفذ هذه الأشياء، فإذا أعطى لمن يحاربهم ذمة الله وذمة رسوله فقد يخالف أحد الأفراد من المقاتلين، فيكون بذلك قد أخفر ذمة الله وذمة رسوله؛ لأن فعل واحد منهم كأنه فعل الجميع، فهذا الذي أراد التنبيه عليه، فإذا حصل مثل هذا الشيء فينبغي على الذي عقد العقد أن يعطي ذمته لا ذمة الله وذمة رسوله، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أرشد إلى هذا كما سيأتي في الحديث.

ثم إن الله جل وعلا أمرنا بالوفاء بالعهد، فقال: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ} [الإسراء:٣٤] وقال: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:١] وقال: {وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} [النحل:٩١] والأيمان هنا هي الأيمان الجماعية التي تكون بين الجماعات وبين الأمم، فيجب أن يوفى لهم بما عُقد لهم وبما عوهدوا عليه، فإذا حصل النقض منهم صار قتلهم مباحاً؛ لأن الخيانة جاءت منهم، كما حدث من قريش لما عاهدهم النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية فإنه كتب عهداً بينه وبينهم: أن الحرب تُوضع عشر سنوات لا يكون بينهم قتال فيها، ومن أراد من القبائل أن يدخل في حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده دخل، ومن أراد أن يدخل في حلف قريش وعهدها دخل، فدخلت خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وحلفه، وأسلم منهم من أسلم، فاعتدت عليهم قبيلة بنو بكر وكانت محالفة لقريش، وأعانتهم قريش على ذلك، ولما حصل هذا صار ذلك خيانة ونقضاً للعهد، فغزاهم النبي صلى الله عليه وسلم وفتح مكة.

وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة) وصفة الحلف الذي كان في الجاهلية: أنه كانت تجتمع قبيلتان -مثلاً- ويعقدوا بينهم حلفاً وعهداً على التناصر والتعاون على العدو، والإسلام ليس فيه هذا؛ لأن الإسلام أغنى عن ذلك كله، فقد جعل الناس كلهم على دين واحد وعلى ملة واحدة وعلى طريق واحد متعاونين متآخين، متناصرين على الحق مدافعين للباطل، هذا شأنهم، وهذا الذي يجب عليهم، ولهذا قال: (لا حلف في الإسلام) ولكن إذا وجد الحلف فإن الإسلام لا يزيده إلا شدة، هذا هو المقصود هنا، فلا يقال: هذا نظير ما سبق، بل هذا أمر آخر أخص منه.