للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الجمع بين أحاديث نفي العدوى وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالفرار من المجذوم]

يقول الشارح رحمه الله: [وقد روى حديث: (لا عدوى) جماعة من الصحابة: أنس بن مالك، وجابر بن عبد الله، والسائب بن يزيد، وابن عمر رضي الله عنهم وغيرهم، وفي بعض روايات هذا الحديث: (وفرّ من المجذوم كما تفر من الأسد)، وقد اختلف العلماء في ذلك، وأحسن ما قيل فيه: قول البيهقي وتبعه ابن الصلاح وابن القيم وابن رجب وابن مفلح وغيرهم، أن قوله: (لا عدوى) على الوجه الذي يعتقده أهل الجاهلية، من إضافة الفعل إلى غير الله تعالى، وأن هذه الأمور تعدي بطبعها، وإلا فقد يجعل الله بمشيئته مخالطة الصحيح من به شيء من الأمراض سبباً لحدوث ذلك، ولهذا قال: (وفر من المجذوم كما تفر من الأسد)].

هذا قبل أن يعلم أن كثيراً من الأمراض بسبب الجراثيم، وأن الجراثيم تنتقل من المريض إلى الصحيح، أما إذا علم ذلك فيتبين مراد الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه لا يخالف الواقع.

قال الشارح رحمه الله: [وقال (لا يورد ممرض على مصح)، وقال في الطاعون: (من سمع به في أرض فلا يقدم عليه)، وكل ذلك بتقدير الله تعالى.

ولـ أحمد والترمذي عن ابن مسعود مرفوعاً (لا يعدي شيء شيئاً -قالها ثلاثاً- فقال أعرابي: يا رسول الله! إن النقبة من الجرب تكون بمشفر البعير أو بذنبه في الإبل العظيمة فتجرب كلها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فمن أجرب الأول؟ لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر، خلق الله كل نفس وكتب حياتها ومصائبها ورزقها)].

وهذا معناه أيضاً لا يخالف ما سبق، فالإنسان قد يكون سبباً لمرض غيره، وإذا كان سبباً فليس معنى ذلك أنه هو الذي يفعل هذا، فالأسباب كتبها الله جل وعلا، وقد أمر الإنسان أن يفعل السبب الذي يتوقع فيه الخير، ويجتنب السبب الذي يتوقع منه الأذى والشر، وإن أصيب بشيء من ذلك فيؤمن بأن هذا بقدر الله وقضائه، وأنه لا مفر له من ذلك، وإلا لو كان على ظاهر ما يقال -وهو أن المراد به النفي- فإن فعل الصحابة من رجوعهم من بلاد الشام يكون مخالفاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم، بل هم أحرى الناس وأولى الناس في فهم ما قاله، وهم الذين يمتثلون قوله أكثر من غيرهما، ثم قول الرسول صلى الله عليه وسلم لا يخالف الواقع؛ لأنه وحي من الله.

قال الشارح رحمه الله: [فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن ذلك كله بقضاء الله وقدره، والعبد مأمور باتقاء أسباب الشر إذا كان في عافية، فكما أنه يؤمر أن لا يلقي نفسه في الماء وفي النار، مما جرت العادة أنه يهلك أو يضر، فكذلك اجتناب مقاربة المريض كالمجذوم، والقدوم على بلد الطاعون؛ فإن هذه كلها أسباب للمرض والتلف، فالله سبحانه هو خالق الأسباب ومسبباتها، لا خالق غيره ولا مقدر غيره.

وأما إذا قوي التوكل على الله، والإيمان بقضاء الله وقدره -فقويت النفس على مباشرة بعض هذه الأسباب اعتماداً على الله، ورجاءً منه أن لا يحصل به ضرر- ففي هذه الحال تجوز مباشرة ذلك، لاسيما إذا كانت مصلحة عامة أو خاصة].

وهذا الكلام أيضاً فيه نظر؛ لأنه وإن قويت نفس الإنسان وقوي توكله فإنه غير مأمور بأن يلقي نفسه في الضرر، ولا يجوز، إلا إذا كان هناك مصلحة للإسلام والمسلمين ظاهرة، مثل ما يروى أن خالد بن الوليد احتسى سماً، لما قيل له في حصن حاصره: لن ننزل إلا أن تأكل هذا السم، فأخذه بكفه وقال: باسم الله توكلاً على الله وثقة به، فأكله، فأصابه عرق ولم يضره، وهذا لأنه لمصلحة الإسلام، فبين لهم أن هذه آية من آيات الله جل وعلا، وكذلك حدث لـ سعد بن أبي وقاص ومن معه عندما مشى على البحر بالخيل، وأصبحت تمشي كأنها تمشي على الرمال، وذلك أنهم وثقوا بالله وتوكلوا عليه، وقالوا: نحن في سبيل الله، وعباد الله، ولن يضيعنا ربنا، فمثل هذا فيه مصلحة عامة ظاهرة، ويجعلها الله جل وعلا آية، أما أن يلقي الإنسان يلقي بنفسه في المهالك بدون معنى ولا جدوى فهذا لا يجوز.

قال الشارح رحمه الله: [وعلى هذا يحمل الحديث الذي رواه أبي داود والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم (أخذ بيد مجذوم فأدخلها معه في القصعة، ثم قال: كل باسم الله، ثقة بالله، وتوكلاً عليه)، وقد أخذ به الإمام أحمد، وروي ذلك عن عمر وابنه وسلمان رضي الله عنهم].

لا يلزم أن تكون مخالطة المريض على كل حال تعدي هذا شيء، ثم إن المقصود بالنفي: هو المبالغة في المخالطة، لا كما يعتقده، كثير من الناس من أنه لا ينبغي أن يقرب المريض، ولا أن ينظر إليه، حتى إن بعض العلماء أصيب بشيء من الوسوسة في هذا، وكان لا يعود المريض! فلما قيل له: إن هذا جاء في الشرع! فكيف لا تعود المريض؟! قال: ينبغي أن تكون عيادته من بعيد، وأن يكون الكلام والسلام بالإشارة، لا يكون قريباً منه، إن قربانه والإتيان إليه يكون سبباً للعدوى بالمرض، وهذا إسراف في الواقع، والمنهي المخالطة: كأن يأخذ ثيابه، أو يجلس في لحافه، أو ما أشبه ذلك من الأمور التي هي معروفة أنها تكون من الأسباب المعدية، فهذا هو الذي لا ينبغي، والوسط هو المطلوب، والرسول صلى الله عليه وسلم عندما قال هذا القول، هو الذي قال القول الآخر، فلا تكون متضاربة ومتخالفة.