للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[التوكل وفعل الأسباب]

الصفة الرابعة: أنهم على ربهم يتوكلون، وهذا هو الجامع لما سبق، فهذه هي الصفة التي جمعت ما سبق، كونهم يتركون الطلب من الناس وسؤال الرقية وغيرها، وكونهم لا يتطيرون، بل يعلمون يقيناً أنهم لا يصيبهم إلا ما قدره الله وقضاه، وأن الأمور كلها بيد الله، وأن الطيور والحيوانات وغيرها لا دخل لها في تدبير شيء وتغيير أمر من الأمور، وأنها مسخرة مدبرة، فهم يعتمدون على ربهم جل وعلا موقنين بأن ما كتب الله عليهم لا بد أن يقع، وما لم يكتبه فلن يأتي إليهم.

وكذلك كونهم لا يفعلون الأسباب المكروهة، والأسباب تنقسم إلى ثلاثة أقسام، ومن هذه الثلاثة قسم وضع سبباً على حصول المطلوب -المسبب- ولا بد منه، ككون الإنسان يطلب العلم فيحصل له ذلك، فلو جلس في بيته بدون طلبه ما حصل له شيء، وكون الإنسان يتزوج ليحصل له الولد، وأن الإنسان متى جلس وقال: أتوكل على ربي فإذا قدر لي شيئاً سيأتي من الرزق ومن الولد ومن العلم ومن غير ذلك فهو إما أن يكون مجنوناً عقله ذاهب، أو يكون جاهلاً جهلاً مركباً قد ترك الشرع وترك العقل؛ لأن الشرع جاء بفعل الأسباب والأمر بالأخذ بالسبب، ثم بعد ذلك التوكل على الله في حصول المطلوب بعد فعل السبب، فلهذا أمرنا جل وعلا أن نأخذ حذرنا من الكفار، وأن نعد لهم ما استطعنا من قوة، فإنه جل وعلا أخبرنا أنه يصل المؤمنين، وأنه مع المحسنين ومع المتقين، فلا بد من فعل الأسباب، وليس التوكل هو تعطيل السبب والإعراض عنه، بل هذا يسمى عجزاً، فترك الأسباب عجز وليس بتوكل، فالتوكل هو فعل الأسباب ثم الاعتماد على الله في حصول المقصود، أي أن الإنسان لا يعتمد على السبب ولا يعطله، فالاعتماد على السبب شرك، وتعطيله قدح في العقل والشرع، فلا بد أن يفعل الإنسان السبب ولا يعتمد عليه، بل يعتمد على ربه جل وعلا في حصول المطلوب، فهذه هي حقيقة التوكل، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً).

يعني: تذهب في الصباح من أوكارها جائعة وترجع في المساء قد ملأت حواصلها فأثبت لها الغدو والرواح، فلم تجلس في أوكارها، بل لا بد أن تروح؛ لأن هذا هو السبب، والله جعل لكل شيء سبباً.

وليس معنى ذلك أن الأسباب تؤثر بطبائعها وذواتها، كلا فهذه حكمة الله، وإلا فلو شاء لعطل السبب، ولو شاء لأوجد مضاداً له يمنع من حصول المطلوب، وإنما المقصود أن هذه سنته جل وعلا في خلقه أن رتب المسببات على أسبابها، وأمر بفعل السبب والاعتماد عليه في حصول المطلوب، فهذه هي حقيقة التوكل، ولهذا ذكر الله جل وعلا في القرآن أشياء عجيبة خلاف ما تعاهد عليه الناس.

فقد ذكر عن موسى عليه السلام أنه لما أدركه فرعون وقومه وقد حال البحر بينه وبين المضي قال له جل وعلا: {اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ} [الشعراء:٦٣] فوقف كأنه جبال، وأصبح قاع البحر يبساً ليس فيه مدحضة ولا مزلة، قاع يابس، فسار فيه الناس، وما قيمة العصا؟ ومن ذلك أيضاً لما كان قومه في التيه بسبب عنادهم فاستسقى لقومه قال له جل وعلا: ((اضرب بعصاك الحجر))، فانفجر من الحجر اثنتا عشرة عيناً، لكل سبط من أسباط بني إسرائيل عين معينة، وهو حجر يحمل باليد، فمن أين يخرج الماء؟! فليست الأسباب هي التي توجد المسببات، ولكن الله رتب وجودها على فعل هذا السبب، ومن ذلك كونه جل وعلا خلق عيسى من أنثى بلا ذكر، وهذا خلاف المتعاهد عليه والمعروف في خلق بني آدم، وكونه جل وعلا خلق زوج آدم من رجل بلا أنثى، فخلقت من قطعة من جسده أنثى كاملة الخلقة، كل هذا ليبين لنا جل وعلا تمام قدرته، وأنه على كل شيء قدير، وأنه لا يعجزه شيء، ولكنه يضع الأسباب التي صارت هي سنته بالأمر بفعلها ويختبر عباده هل يعبدون الله أو يعبدون الأسباب، وكثير منهم يعبد السبب، وكثير منهم يضيف الأمر إلى نفسه، فيقول: أنا ماهر في وجوه التجارة، وأعرف كيف أتصرف.

وهكذا يقول كثير من الناس، يعني أنه يضيف حصول ما يحصل له إلى نفسه، وينسى ربه الذي لو شاء لأعمى بصيرته وعطل كل سبب يفعله فلا يكون سبباً.

فالمقصود أن التوكل لا ينافي فعل الأسباب، بل يقتضيها، فيقتضي فعل السبب، ولكن الذي يفعل السبب يجب عليه ألا يعتمد على السبب، بل يعتمد على ربه جل وعلا.

فهذه الأوصاف الأربعة هي التي جعلت هؤلاء يسبقون إلى الجنة بلا حساب.

وقد جاء في أحاديث زيادة على السبعين ألفاً، مثل الحديث الذي رواه الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه وصححه غيرهما أن مع كل ألف سبعين ألفاً، ومنها ما هو أكثر من ذلك، فجاء أن معهم ثلاث حثيات من حثيات ربنا جل وعلا، وهذا شيء عظيم جداً، وجاء في حديث -وإن كان الضعيف لا ينبغي ذكره لأنه لا يعتمد عليه- أن السبعين ألفاً من مقبرة البقيع، ثم إن الصحابة رضوان الله عليهم لحرصهم على الخير كانوا يعلمون أن هذا بعمل وليس بدون عمل، ولهذا بحثوا عن الأسباب.