[أثر ابن عباس: (من أحب في الله، وأبغض في الله)]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (من أحب في الله, وأبغض في الله, ووالى في الله, وعادى في الله، فإنما تنال ولاية الله بذلك، ولن يجد عبد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك، وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا, وذلك لا يجدي على أهله شيئاً) رواه ابن جرير].
قال ابن عباس هذا وهو في آخر حياته رضي الله عنه، وقوله هذا بالنسبة لمن في وقته إلى ما كان عليه الصحابة زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم كانوا على جانب عظيم من محبة الله جل وعلا, ومن المؤاخاة في الله جل وعلا، قال عبد الله بن عمر: (ما كان أحدنا يرى أنه أحق بدرهمه من أخيه)، والله جل وعلا يقول في كتابه في وصفهم: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:٩] أي: أنهم يقدمون غيرهم على ما يحتاجونه، ويعطونهم إياه وهم بحاجة إليه، ولكنهم يطلبون رضوان الله جل وعلا، وقوله: (وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) يعني: ولو كان بهم الحاجة والفاقة إلى هذا الشيء, ومع ذلك يبذلونه حباً لطاعة الله جل وعلا وامتثال أمره، فقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يتحابون في الله أعظم المحبة, وكانت موالاتهم في الله وليس لشيء آخر.
وكذلك إذا أبغضوا أحداً فبغضهم لله، فيبغضون من كان عنده كفر أو فسق، فيبغضه الواحد منهم من أجل ذلك ولو كان قريبه، وهذا أمر لابد منه، وهو من واجب الإيمان؛ لأن الله جل وعلا يقول: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:٢٢]، ومن أقرب من الابن والأب من الناس؟! فإذا كان عدواً لله فيجب أن تعاديه، ولا يكون بينك وبينه مودة، فالمودة إنما تكون لله جل وعلا، قال ابن عباس: ولا تنال ولاية الله إلا بذلك، ولو كثرت صلاة الإنسان وصومه فلن يجد طعم الإيمان- حتى يحب لله، ويبغض لله، ويعادي لله، ويوالي لله.
فالأصل ليس كثرة الصلاة والصوم، الأصل هو الحب الذي هو العبودية لله، فلابد للعبد أن يحب من يحبه الله ويبغض من يبغضه الله، هذا شيء لابد منه؛ لأن هذه فروع محبة الله، ولا يمكن أن يقول الإنسان: أنا أحب ربي، وهو يوالي عدو الله! مستحيل أن يدعي الإنسان المحبة ويكون حليفاً لعدوه، هذا لا يمكن؛ ولهذا حذرنا الله جل وعلا كثيراً من موالاة الكفار فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة:٥١]، وقد ذكر جل وعلا ما وقع من بعض الصحابة وهي واقعة قد يتصور الإنسان أنها سهلة وليست بشيء، ولكنها عظيمة جداً أنزل الله فيها قرآناً يتلى، وهي قصة حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه, فلما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يغزو قريشاً لما نقضوا العهد الذي بينهم وبينه، فدعى ربه: (اللهم عم عليهم أخبارنا حتى نبغتهم)، وصار يسأل عن الطرق التي في شمال المدينة، فكتب حاطب بن أبي بلتعة كتاباً أرسله إلى قريش فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش, أما بعد: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءكم بجيش لا قبل لكم به.
وهذا فيه إنذار بالواقع لهم، ومع ذلك جاءه الخبر من السماء بأن كتاباً أرسل مع امرأة, وهي في مكان كذا وكذا؛ فأمر صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب والزبير وقال: (ستجدان ظعينة في روضة خاخ معها كتاب فائتياني به).
فذهبا فوجدا المرأة معها غنم, فسألاها الكتاب، قالت: ليس معي كتاب، قالا لها: والله ما كَذبنا ولا كُذبنا، والله لتخرجن الكتاب أو لننزعن الثياب -يعني: نجردك من ثيابك ونبحث, فالكتاب معك ولابد- فلما رأت الجد أخرجت الكتاب من عقيصتها -يعني: وضعت الكتاب في رأسها، وظفرت عليه شعرها- فأخرجته ودفعته إليهما.
فدعاه الرسول صلى الله عليه وسلم, وقال: ما هذا؟ قال: يا رسول الله لا تعجل علي، والله ليس بي شك، وإني أعلم أن الله سينصرك، وأن هذا الكتاب لا ينفع قريشاً، ولكني رجل غريب في قريش, وكل من معك لهم أقارب في مكة، فأردت أن أتخذ عندهم يداً مع علمي أنه لا يضرك ولا يضر المسلمين، فقال عمر: دعني أضرب عنقه، فقال له صلى الله عليه وسلم: (وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، عند ذلك ذرفت عينا عمر، وقال: الله ورسوله أعلم.
والمقصود بهذه القضية: نزول قول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ} [الممتحنة:١] إلى آخر الآيات، ثم ختمت السورة بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [الممتحنة:١٣].
فبدئت السورة بالنهي عن موالاة الكفار، وختمت بالنهي عن ذلك، وفيها: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:٤]؛فلابد أن يكون لكم أسوة في هؤلاء الأكارم الأطايب، وأن تقولوا مثلما قالوا، وهذه من آخر ما نزل من السور.