للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[من المنكر ترك الكتاب والسنة والتمسك بآراء الفقهاء]

قال الشارح: [وقد عمت البلوى بهذا المنكر، خصوصاً لمن ينتسب إلى العلم، نصبوا الحبائل في الصد عن الأخذ بالكتاب والسنة، وصدوا عن متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وتعظيم أمره ونهيه، فمن ذلك قولهم: لا يستدل بالكتاب والسنة إلا المجتهد، والاجتهاد قد انقطع.

ويقول: هذا الذي قلدته أعلم منك بالحديث وبناسخه ومنسوخه، ونحو ذلك من الأقوال التي غايتها ترك متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، والاعتماد على قول من يجوز عليه الخطأ، وغيره من الأئمة يخالفه ويمنع قوله بالدليل، فما من إمام إلا والذي معه بعض العلم لا كله.

فواجب على كل مكلف إذا بلغه الدليل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفهم معنى ذلك: أن ينتهي إليه ويعمل به وإن خالفه من خالفه، كما قال الله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف:٣]، وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت:٥١]، وقد تقدم حكاية الإجماع على ذلك، وبيان أن المقلد ليس من أهل العلم، وقد حكى أيضاً أبو عمر بن عبد البر وغيره الإجماع على ذلك].

يقصد بقوله: (نصبوا الحبائل في الصد عن الأخذ بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم) الذين يضعون الكتب في المذاهب ويبنون المسائل على الآراء والأقيسة التي تلقوها عن بعضهم، ومعلوم أن الرأي إذا كان غير مستند إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فلا يجوز أن ننسبه إلى الشرع؛ لأنه محل للخطأ، وقد يصيب في بعض المسائل، ولكن يوجد فيه خطأ بلا شك؛ لأن الله جل وعلا يقول: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:٨٢]، فدل هذا على أن كل كلام ليس من الرسول صلى الله عليه وسلم ولا من الوحي الذي أوحي إليه أنه لابد أن يكون فيه اختلاف، فالآراء لا يجوز أن تؤخذ مجردة عن الدليل.

فيقصد بهذا كتب الفقه التي توضع في المذاهب، فيقال: إن حكم المسألة كذا وكذا وليست معتمدة على الدليل، فإذا جيء بالأدلة وقيل إن الدليل يدل على خلاف هذا، قالوا: أنت خارج عن مذهب المسلمين، وقد يقولون له: أنت جئت بمذهب خامس ويخطئونه ويقولون: لا يجوز للإنسان أن يأخذ فقهه من كتاب الله؛ لأن هذا يحتاج إلى اجتهاد والاجتهاد يزعمون أنه منقطع من زمن الأئمة، وهذه من دسائس الشيطان؛ لأن الاجتهاد لا ينقطع كما قال الإمام أحمد مستدلاً على أن الاجتهاد يبقى إلى يوم القيامة بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)، فهؤلاء فيهم أهل الاجتهاد؛ لأن النصرة وكونهم على الحق دليل على أنهم مجتهدون.

ومعلوم أن كتاب الله ميسر للذكر: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:١٧]، يقول العلماء: هل من طالب علم فيعان عليه، يعني: لأنه ميسر.

فكل من عرف اللغة العربية وتلقى هذا الكتاب لابد أن يدرك ما يدرك وإن اختلف الناس، فهذا أمر معلوم.

ولهذا إذا تأمل الإنسان في القرآن -وإن كان عامياً- فإنه يجد فيه من المعاني ويفهم فيه من الخطاب ولو في العموم، ولكن إذا جاء الإنسان دليل من قول الله وقول رسوله فيجب أن يترك قوله أو قول الآخرين لهذا الدليل، هذا هو المقصود وهذا مراده، يقول: لا يجوز أن نعارض كلام الله أو كلام رسوله برأي الإمام أحمد أو برأي الإمام مالك أو برأي الإمام أبي حنيفة أو الشافعي فضلاً عن غيرهم، بل لا يجوز أن نعارض قول الله وقول رسوله بأقوال الصحابة الذين هم أفضل من هؤلاء، وقد مر معنا قول ابن عباس: (يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون قال أبو بكر وعمر).

فالذين ينصبون الحبائل ويصدون عن كتاب الله، يعني أنهم يعتلون بأن الناس اليوم كلهم أهل تقليد وأنه يجب أن يقلد الإنسان الإمام فلاناً أو الإمام فلاناً، وهذا صد عن تدبر كتاب الله وفهمه والتعلم منه وسد للباب في هذا، وهذا إنما جاء به الشيطان، وأحياناً يذكرون أشياء عجيبة كما هو مذكور الآن في بعض الكتب يقولون: لا يجوز أن يعتمد الإنسان في استنباطه على الكتاب أو السنة إلا بشروط: منها أن يكون عالماً باللغة، عالماً بأسباب النزول، عالماً بالناسخ والمنسوخ، عالماً بالخاص والعام، عالماً بالمقدم والمؤخر، إلى ما يقرب من أربعين شرطاً وسيأتي أن المصنف رحمه الله يقول: هذه الشروط لعلها لا تجتمع في أبي بكر يعني: لا توجد مجتمعة في أحد من الناس.