[حديث: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان)]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولهما عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار)، وفي رواية: (لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى)، إلى آخره].
قوله: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان)، والرواية الأخرى: (لا يجد)، الرواية الأخرى فيها النفي، فالإنسان لا يجد حلاوة الإيمان حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وحتى يحب المرء لا يحبه إلا لله، وحتى يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار.
إذا وجدت هذه في قلب الإنسان، وتحلى بها؛ فإنه يجد بها حلاوة الإيمان، ففي هذا دليل على أن الإنسان قد يجد الحلاوة وقد لا يجدها، وأن الإيمان له حلاوة توجد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (يجد)، أو (يجد بهن)، ويقول: (لا يجد عبد حلاوة الإيمان حتى يكون)، فوجود الحلاوة يكون بهذه الخصال الثلاث.
وقوله: (لا يجدها حتى) دليل على أنها أمر محسوس، وأن الإيمان له حلاوة، وهذه الحلاوة ليست حلاوة عقلية كما يقوله من يقوله أو حلاوة معنوية، بل هي حلاوة محسوسة يحس بها الإنسان، وحلاوته أحلى من الطعام المشتهى، وأحلى من الشراب الحلو المشتهى؛ لأنها تشمل البدن كله، وتعم الجوارح وتبقى معه، بل يزول بها الآلام التي قد يجدها، ويتحمل في سبيلها ما لا تتحمله الجبال إذا وجد هذه الحلاوة.
فمثلاً: كان الرسول صلى الله عليه وسلم في غزاة، وأراد أن يبيت صلوات الله وسلامه عليه مع المسلمين، فأمر رجلين من أصحابه أن يذهبا إلى شعب معين ويحرسا في الليل، فلما ذهبا قال أحدهما للآخر: إما أن تنام أنت أول الليل أو أنام أنا، فقال: بل أنا أنام وأقوم آخر الليل، فنام صاحبه وهو قام يصلي، فجاء رجل من الكفار قد أخذت زوجته، وأقسم أن يذهب خلف المسلمين حتى يريق فيهم دماً، فجاء فرأى شخص الرجل الذي يصلي، فعرف أنه رجل من المسلمين، فصوب إليه نبله فضربه وأثبته فيه، فنزعه من بدنه، واستمر في قراءته، ثم صوب إليه السهم الثاني وضربه، فنزعه واستمر في قراءته، ثم صوب إليه الثالث وضربه، فعند ذلك أيقظ صاحبه، ولما استيقظ صاحبه رأى الدماء تسيل منه قال: سبحان الله! لماذا ما أيقظتني في أول الأمر؟ فقال: والله لولا أني خفت على المسلمين، ما أيقظتك فإني كنت في آيات فكرهت أن أقطعها قبل أن أوقظك.
ما الذي حمله على احتمال الألم؟ حلاوة الإيمان وتلاوة القرآن، تحمل في سبيل الله هذا الأمر حتى كاد يصل إلى القتل، والأمثلة على هذا كثيرة جداً، هذه الحلاوة هي فوق حلاوة الطعام، وذلك إذا تحلى قلبه وجوارحه بأن الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، من كل شيء حتى من نفسه؛ صارت الطاعة مقدمة على هذه الأمور، كما حدث لهذا الرجل، قدمها حتى على نفسه، وإنما حمله على أن يقطع قراءته ومناجاته خوفه على المسلمين، وامتثاله أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما نفسه فلم تكن هي المؤثرة في ذلك.
هذا أمر يجعل الإنسان يتحمل في سبيله المشاق والأمور العظيمة، والإنسان قد يجد في نفسه هذا الشيء، أنه إذا عمل طاعة لله يجد لذة وطمأنينة، بخلاف ما إذا عمل بالمعصية، فإنه يجد وحشة وخوفاً وقلقاً يقلقه، ولكن هذا الشيء لا يشعر به من كانت معاصيه كثيرة.
وكذلك من كانت الطاعة ليست من شأنه وليس بمتحلٍ بها، وإنما تأتي منه مرة وتذهب أخرى لا يجد ذلك؛ لأن الذنوب تضاد هذه الأمور أو تضعفها فلا تظهر، فيكون الإنسان شبه ميت، والميت إذا جرح لا يحس بالجرح؛ لهذا يقول الله جل وعلا: {بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:١٤] الران هو آثار الذنوب، غطاها فأصبح لا يحس الإنسان بأثر الذنب، خلافاً لصاحب الطاعة فإنه إذا وقع في معصية ندم وخاف، وأصابه الوجل حتى يقلع عن ذلك، ويكتسب طاعات تكفر عنه هذا الأمر.
قال الشارح رحمه الله تعالى [قوله: (ولهما عنه) أي: البخاري ومسلم عن أنس قوله: (ثلاث) أي: ثلاث خصال، قوله: (من كن فيه) أي: وجدت فيه تامة، قوله: (وجد بهن حلاوة الإيمان) الحلاوة: هنا هي التي يعبر عنها بالذوق، لما يحصل به من لذة القلب ونعيمه وسروره وغذائه، وهي شيء محسوس يجده أهل الإيمان في قلوبهم].
حلاوة الإيمان في الواقع هي ثمرة الطاعات، فعندما يستشعر الإنسان أنه أدى عبادة لله جل وعلا على الوجه الذي أمره به، ويشعر أن الله جل وعلا تفضل عليه وأنعم عليه حيث قربه في ذلك، فمن أعظم نعم الله على العبد: أن يعمل بطاعة الله جل وعلا على نور من الله، يرجو ثوابه، ويخاف عقابه.
وهذا في الواقع هو النعيم الذي يكون في الدنيا قبل الآخرة، وليس النعيم والحلاوة لذة البدن الحيوانية التي يشترك فيها العاقل وغير العاقل من البهائم وغيرها، وإنما اللذة والحلاوة والنعيم أن يتصل القلب بربه جل وعلا اتصالاً وثيقاً، يؤمن به إيماناً يقينياً، ثم يكون ذلك على نور، يعني: اتباع للرسول صلى الله عليه وسلم وهديه، وأن يكون على يقين لأنه يستيقن أنه على الطاعة والهدى، وهذا الذي أخبر الله جل وعلا أنه يجعل له نوراً يمشي به في الناس، هذا هو النور والهدى والحياة: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} [الأنعام:١٢٢].
الموت الحقيقي يكون بالجهل وبالإعراض عن الله جل وعلا، وليس الموت كونه يفارق البدن، هذا شيء قضى الله جل وعلا به على جميع خلقه، ولكن قد تكون حياته بعد المفارقة أحسن من قبل بكثير، حياة حقيقية وليست حياة وهمية تصورية، ولهذا يقول الله جل وعلا: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} [البقرة:١٥٤]، لا تشعرون بحياتهم وبما أعد الله لهم.
وفي الآية الأخرى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:١٦٩].
فالحياة الحقيقية هي أن يتحلى الإنسان بطاعة الله جل وعلا، وتكون هذه الطاعة تصل إلى قلبه، ويتنعم بها ويجد اللذة، ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة.
وليست هذه الجنة بساتين ورياحين، وإنما هي اللذة بطاعة الله جل وعلا والتنعم، حتى وإن أوذي، حتى وإن كان فقيراً مدقعاً يجد النعيم في ذلك.