[نهي عمر الناس عن تتبع آثار الأنبياء وأماكن صلاتهم]
قال الشارح: [وقال المعرور بن سويد: (صليت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه بطريق مكة صلاة الصبح، ثم رأى الناس يذهبون مذاهب، فقال: أين يذهب هؤلاء؟ فقيل: يا أمير المؤمنين! مسجد صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فهم يصلون فيه، فقال: إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا، كانوا يتتبعون آثار أنبيائهم ويتخذونها كنائس وبيعاً، فمن أدركته الصلاة في هذه المساجد فليصل، ومن لا، فليمض ولا يتعمدها).
وفي مغازي ابن إسحاق من زيادات يونس بن بكير عن أبي خلدة خالد بن دينار قال: حدثنا أبو العالية قال: (لما فتحنا تستر وجدنا في بيت مال الهرمزان سريراً عليه رجل ميت عند رأسه مصحف، فأخذنا المصحف فحملناه إلى عمر، فدعا له كعباً فنسخه بالعربية، فأنا أول رجل قرأه من العرب، قرأته مثلما أقرأ القرآن، فقلت لـ أبي العالية: ما كان فيه؟ قال: سيرتكم، وأموركم، ولحون كلامكم، وما هو كائن بعد، قلت: فماذا صنعتم بالرجل؟ قال: حفرنا له بالنهار ثلاثة عشرة قبراً متفرقة، فلما كان بالليل دفناه وسوينا القبور كلها لنعميه على الناس لا ينبشونه، قلت: وما يرجون منه؟ قال: كانت السماء إذا حبست عنهم برزوا بسريره فيمطرون، فقلت: من كنتم تظنون الرجل؟ قال: رجل يقال له: دانيال، فقلت: منذ كم وجدتموه مات؟ قال: منذ ثلاثمائة سنة، قلت: ما كان تغير منه شيء؟ قال: لا إلا شعيرات من قفاه.
إن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض].
هذه القصة تدل على أن الصحابة والتابعين لهم يعرفون العلة في المنع من اتخاذ القبور مساجد، وتحري الصلاة عندها، وخوفاً من العبادة لها، وليس كما يزعم بعض الفقهاء الذين قل نصيبهم من مقاصد الشرع ومن معرفة مراد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فزعموا أن النهي لأجل النجاسة فقط، فمعنى ذلك: إذا أمطرت السماء على القبور وغسلت وجه الأرض فإنه يجوز أن نصلي عندها؛ لأنها طاهرة غسلها الماء.
وكذلك إذا أصابتها الريح وأصابتها الشمس؛ لأن الريح على القول الصحيح تطهر كما أن الشمس على القول الصحيح تطهر إذا استحالت الأرض وزال أثرها، يعني: على قولهم هذا الباطل يجوز أن نصلي فيها، وهذا في الواقع مصادمة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم تماماً، فالسلف فهموا المراد من نهي الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا لما وجدوا هذا النبي الذي على السرير مخزوناً محفوظاً في الصندوق صنعوا به هذا الصنيع، حفروا له ثلاثة عشر قبراً في النهار متفرقة، كل قبر في مكان، ثم لما كان في ظلام الليل دفنوه في واحد منها، وسووها كلها؛ خوفاً من أن يتخذ معبوداً من دون الله عز وجل، يقول ابن القيم: هذا لو ظفر به المتأخرون لجالدوا عليه بالسلاح.
يعني: لتقاتلوا عليه حتى يعبدوه؛ لأنهم في الواقع ما فهموا عبادة الله على الوجه الذي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم، فصاروا يتعلقون بغير الله جل وعلا ممن يرجون صلاحهم.
وقوله: (وجدنا عنده مصحفاً)، المقصود: وجدنا عنده كتاباً؛ لأن كل كتاب يكتب يسمى: مصحفاً؛ لأنه من الصحف، كل ما كان في صحائف فهو مصحف، والصحائف التي كتبت كانت بلغة غير لغة العرب، يظهر أنها باللغة العبرية -لغة اليهود- أو السريانية والله أعلم، ودانيال من أنبياء بني إسرائيل.
وقوله: (إنه دعا له كعباً، المقصود به كعب الأحبار؛ لأنه كان من اليهود فأسلم، وكان يعرف لغتهم، وكان يقرأ كتبهم، فنقله من لغتهم إلى اللغة العربية، وأبو العالية يقول: (أنا أول من قرأه) فلما سئل عنه، يقول: (إن فيه وصفكم وفيه سيرتكم وتلحينكم وأفعالكم) يظهر أن هذا مأخوذ عن الأنبياء.
وهذا الأمر يدل على أن تحري العبادة عند القبور أو التوسل بها -كما يقول الكثير من الناس- لا يجوز عند الصحابة؛ ولهذا منعوا من ذلك، وفعلوا هذا الصنيع للتعمية، حتى لا يكونوا مثل هؤلاء الذين يخرجون به إذا قحطوا فيسقون، فإن هذا لا يجوز في دين الإسلام، هذا من دعاء غير الله جل وعلا، دعاء الله لا يكون إلا بأسمائه وصفاته، أو بالإيمان به، والأعمال الصالحة التي يعملها الإنسان يسأل الله بها، أما أن يسأل بجثث، أو بأعمال الآخرين، أو بوجاهتهم، أو ما أشبه ذلك فهذا من البدع والضلالة، ولهذا منع من ذلك الصحابة رضوان الله عليهم، وفعلوا هذا الفعل؛ لئلا يقع فيه من لا يعرف الحق في هذا.
قال الشارح: [قال ابن القيم رحمه الله: ففي هذه القصة ما فعله المهاجرون والأنصار رضي الله عنهم من تعمية قبره؛ لئلا يفتتن به، ولم يبرزوه للدعاء عنده والتبرك به، ولو ظفر به المتأخرون لجالدوا عليه بالسيوف، ولعبدوه من دون الله.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: وهو إنكار منهم لذلك، فمن قصد بقعة يرجو الخير بقصدها، ولم يستحب الشارع قصدها، فهو من المنكرات، وبعضه أشد من بعض، سواء قصدها ليصلي عندها، أو ليدعو عندها، أو ليقرأ عندها، أو ليذكر الله عندها، أو لينسك عندها، بحيث يخص تلك البقعة بنوع من العبادة التي لم يشرع تخصيصها به لا نوعاً ولا عيناً، إلا أن ذلك قد يجوز بحكم الاتفاق لا لقصد الدعاء فيها، كمن يزورها ويسلم عليها ويسأل الله العافية له وللموتى كما جاءت به السنة.
وأما تحري الدعاء عندها بحيث يستشعر أن الدعاء هناك أجوب منه في غيره فهذا هو المنهي عنه.
انتهى ملخصاً].
معنى هذا الكلام: أن تحري العبادة من دعاء وقراءة وصلاة في أماكن معينة -غير الأماكن التي أذن فيها الشرع أو رغب فيها- ضلال، ومن ذلك القبور أو أماكن معينة تقصد لهذا الشيء، من زاوية أو مكان يقال: إن فيه بركة أو ما أشبه ذلك، فإن فعل هذا ضلال، ولكن إذا كان الإنسان في طريقه سائراً وكان يدعو أو يقرأ، فمر بشيء من هذه الأماكن فإنه لا يقال: إنه قصدها، ولا يمنع من فعله بل يستمر على فعله، كما أن الذي يزور القبور مثلاً لأمر الشرع وهو تذكر الآخرة والاعتبار بالقبور؛ لأن الإنسان مآله إلى أن يقبر، والاستغفار لأصحابها إحسان إليهم، فهذا لا بأس به؛ لأنه مأذون به شرعاً، بخلاف من يذهب إليها ويسأل الله عندها ويرى أنه يجاب؛ لأن فيها الولي الفلاني، أو فيها النبي الفلاني أو ما أشبه ذلك، فإن هذا من الضلال.
فيجب أن يميز الإنسان بين ما هو مشروع وبين ما هو بدع وضلال، والله جل وعلا لا يقبل من العبد إلا ما كان خالصاً له، وكان على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولابد من هذين الشرطين في كل عمل يتقرب به إلى الله، أن يكون هذا العمل خالصاً لله، وأن يكون على سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم.