[ما يستفاد من حديث قتيلة]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن قتيلة: (أن يهودياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم تشركون: تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة.
فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة، وأن يقولوا: ما شاء الله ثم شئت) رواه النسائي وصححه].
في هذا الحديث من الاعتبارات: أولاً: كيف أن اليهود يعرفون مثل هذه الدقائق وينكرونها على المسلمين، وهم يقولون: (عزير ابن الله)، (يد الله مغلولة)، (نحن أغنياء والله فقير)، ويفعلون الأفعال التي تنافي وحدانية الله جل وعلا، ثم ينكرون على المسلمين مثل هذا الشيء الدقيق، فهذا يدل على أن صاحب الهوى قد يفهم شيئاً دقيقاً لأجل هواه لا من أجل الحق.
ثانياً: أن الحق إذا جاء -وإن كان من عدو- يجب أن يقبل، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قبل ذلك ونهى عنه، وهو إنما جاء من اليهود وهم أعداء الله، وأعداء رسوله، وأعداء المسلمين، والحق ضالة المؤمن فيجب أن يقبله ويقول به، وإن كان صادراً من عدو.
ثالثاً: أن الإنسان ظلوم جهول قد يعرض عن الأمور العظائم التي يفعلها، وينتقد الأمور الدقيقة الضعيفة على غيره.
قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله: (عن قتيلة) بمثناة، مصغرة، قتيلة بنت صيفي الأنصارية صحابية مهاجرة، لها حديث في سنن النسائي وهو المذكور في الباب، ورواه عنها عبد الله بن يسار الجعفي.
وفيه: قبول الحق ممن جاء به كائناً من كان.
وفيه: بيان النهي عن الحلف بالكعبة، مع أنها بيت الله التي حجها وقصدها بالحج والعمرة فريضة.
وهذا يبين أن النهي عن الشرك بالله عام لا يصلح منه شيء لا لملك مقرب، ولا لنبي مرسل، ولا للكعبة التي هي بيت الله في أرضه.
وأنت ترى ما وقع من الناس اليوم من الحلف بالكعبة، وسؤالها ما لا يقدر عليه إلا الله، ومن المعلوم أن الكعبة لا تضر ولا تنفع؛ وإنما شرع الله لعباده الطواف بها والعبادة عندها وجعلها للأمة قبلة، فالطواف بها مشروع، والحلف بها ودعاؤها ممنوع، فميز أيها المكلف بين ما يشرع وما يمنع، وإن خالفك من خالفك من جهلة الناس الذين هم كالأنعام بل هم أضل سبيلاً].
شبيه بقول هذا اليهودي ما سمعناه من بعض النصارى، فإنهم يقولون في هذه المسألة: إن المسلمين عندهم بقايا وثنية حيث يذهبون إلى الكعبة ويتمسحون بها ويطوفون عليها.
وهذا غريب من هؤلاء المشركين الذين يجعلون المسيح بن مريم ابن الله أو أنه ثالث ثلاثة ويعبدونه، فهم يعبدون رجلاً كان في بطن امرأة حملاً، ثم وضع فصار رضيعاً ضعيفاً، إلى أن جاءت عليه الأطوار التي تأتي على الإنسان، ثم يقولون: هو ربهم، وأنه هو الذي يتصرف، ثم ينتقدون هذا الانتقاد، هذا من أعجب العجب.
والجاهل الذي لا يعرف حكم الإسلام، ولا يعرف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، قد ينطلي عليه مثل هذا الكلام؛ لأن القائل نفسه يعلم أنه باطل، وأن مقصوده به التشويه، وكذلك يقصد به أن ينفر عن الإسلام من لا يعرفه، وإلا فإن أهل الإسلام يعلمون أن الكعبة مبنية من الحجر والطين، وأنها لا تضر ولا تنفع أحداً، وإنما يمتثلون أمر ربهم حيث أمرهم بقصدها والطواف عليها وبالتوجه إليها بالصلاة والدعاء.
فهذا مثلما ذكر الله جل وعلا أنه أمر الملائكة بأن يسجدوا لآدم فسجدوا طاعة لله وليس عبادة لآدم، فكذلك المسلمون يذهبون إلى الكعبة ويطوفون بها طاعة لله جل وعلا، ويعبدون رب الكعبة وليست الكعبة هي المعبودة، وإنما المعبود ربها الذي أمر بتعظيمها وبقصدها وبالطواف عليها.
أما التمسح بها فليس مشروعاً بل لا يجوز وهو من المحرمات، وإذا وقع فإنما يقع من الجهلة الذين لا يعرفون الحكمة، وإنما الذي يمسح هو الحجر الأسود والركن اليماني فقط، وأما غير ذلك فلا يجوز التمسح كما يقول هؤلاء الأعداء، وإنما يفعلون ما أمروا تعبداً لله جل وعلا وتقرباً.
وأما الوقوف بعرفات فهو عبادة أمروا بها تعبداً لله، وكذلك المبيت بمزدلفة، ورمي الجمار وسائر مواقف الحج والمشاعر، كلها عبودية للقلب وللبدن؛ فالقلب أولاً يخضع لله جل وعلا ممتثلاً أمره وليس لهذه المظاهر التي يزعم الأعداء أنها من بقايا الوثنية، إذ إنهم إما جاهلون بالحكم وبالواقع، أو أنهم عرفوا الحكم فكذبوا على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين، فعليهم جريمة الكذب وجريمة معاداة الحق.