للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مقارنة بين مشركي زماننا ومشركي العرب]

قال الشارح رحمه الله رحمة واسعة: [قوله: (فقد كفر أو أشرك) يحتمل أن يكون شكاً من الراوي، ويحتمل أن تكون (أو) بمعنى الواو، فيكون قد كفر وأشرك ويكون من الكفر الذي هو دون الكفر الأكبر، كما هو من الشرك الأصغر، وورد مثل هذا عن ابن مسعود بهذا اللفظ.

قال المصنف رحمه الله: (وقال ابن مسعود: لأن أحلف بالله كاذباً أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقاً).

ومن المعلوم من أن الحلف بالله كاذباً كبيرة من الكبائر، لكن الشرك أكبر من الكبائر وإن كان أصغر كما تقدم بيان ذلك، فإذا كان هذا حال الشرك الأصغر فكيف بالشرك الأكبر الموجب للخلود في النار؟ كدعوة غير الله والاستغاثة، به والرغبة إليه، وإنزال حوائجه به، كما هو حال الأكثر من هذه الأمة في هذه الأزمان وما قبلها من تعظيم القبور، واتخاذها أوثاناً، والبناء عليها، واتخاذها مساجد، وبناء المشاهد باسم الميت لعبادة من بنيت باسمه وتعظيمه، والإقبال عليه بالقلوب والأعمال والأقوال.

وقد عظمت البلوى بهذا الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله وتركوا ما دل عليه القرآن العظيم من النهي عن هذا الشرك وما يوصل إليه، قال الله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنْ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} [الأعراف:٣٧] كفرهم الله تعالى بدعوتهم من كانوا يدعونه من دونه في دار الدنيا].

هذا إقرار بأنهم كفرة، وقوله جل وعلا في هذه الآية لما سألهم: (أين الذين كنتم تدعونهم)، يعني: كنتم تستغيثون بهم وتنزلون بهم حاجاتكم، أو تجعلونهم وسطاء بينكم وبين الله؟ (قالوا ضلوا عنا) أي: ذهبوا عنا فلا نراهم؛ لأنها دعوى باطلة، ولو كانوا أمامهم لكفروا بهم وتبرءوا منهم، ثم قال الله تعالى في الآية الأخرى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:٥ - ٦].

ويقول جل وعلا في آية أخرى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ} [البقرة:١٦٦]؛ فالأسباب التي تقطعت بهم هي الوسائل التي يزعمون أنها توصلهم وتقربهم بقولهم: إنا نتوسل بهم، أو قولهم: نتشفع بهم، ويجعلون التشفع الذي هو من قبيل الشرك الأكبر، تشفعاً، أو توسلاً، وقد يسمونه تعظيماً للصالحين، وإحسان الظن بهم، وإذا نهوا عن ذلك قالوا: هذا لا يحب الصالحين، ويجعلون التوحيد منكراً والشرك معروفاً؛ لأنهم عاشوا على هذا وتربوا عليه ووجدوا كبراءهم كذلك، وربما علماء يجدونهم على هذا، ثم هم يستبعدون أن يكون هذا شرك أبي لهب، وأبي جهل وأضرابهما، مع أنه أعظم من شركهما.

{وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا} [البقرة:١٦٧]، يعني: أن كل واحد من الداعي والمدعو يتبرأ من الآخر، وتصبح الدعوى في ذلك المكان حسرة على الداعي، وكذلك يكون المدعو عدواً له متبرئاً منه، كما قال الله جل وعلا عن إبراهيم عليه السلام وهو يخاطب قومه: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [العنكبوت:٢٥]، هكذا يكفر الداعي بالمدعو، والمدعو بالداعي، ويلعن المدعو الداعي، وكذلك الداعي؛ لأنها كلها ضلالات، وذلك لأن الحسرات والعذاب كله بحذافيره يجري على المشرك يوم القيامة يتحسر على فعله حيث فعل فعلاً أوبقه وأوجب له النار، ثم لا يغني عنه هذا التحسر وهذه الندامة شيئاً، فلا بد له من العذاب الأليم.

أما في هذه الدنيا فيمكنه أن يتوب، ويطلب من ربه العتبى، ويراجع نفسه، ويعلم ما أوجب الله عليه من توحيده والكفر بالطاغوت، وكل معبود من دون الله فهو طاغوت، سواء كان معبوداً حقيقة أو معنىً، وسواء كان من أجل الدعوة والتوسل، أو من أجل الحكم واتخاذه قانوناً أو دستوراً غير الشرع، فهو طاغوت يجب أن يكفر به، والكفر بالطاغوت قبل الإيمان بالله يجب أولاً، لأن الله تعالى يقول: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:٢٥٦]، فالتوحيد ليس مجرد صلاة وصوم فقط، بل مبني على شيئين: عبادة الله والإخلاص له، والكفر بالطواغيت عموماً والبراءة منها، وإلا كان الإنسان من الهالكين.

والمقصود أن الوقوع في الشرك كثير جداً، فالإنسان لا يستبعد ذلك، فإن الشرك أنواع شتى، وسيأتي أنه أخفى من دبيب النملة على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهذا يكون في شرك النيات والمقاصد، وقد يكون في شرك الأقوال.

أما الشرك الذي هو مخرج من الدين الإسلامي فهو واضح في كتاب الله وجلي، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أوضحه، والله جل وعلا أوضحه.