للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الجهاد باقٍ إلى قيام الساعة وهو سبب عزة المسلمين

ثم من المعروف من شرع الإسلام وعليه علماء الإسلام أن الجهاد مشروع إلى آخر من يكون على هذا الدين من هذه الأمة إلى أن يرث الله جل وعلا الأرض ومن عليها، فما دام الدين الإسلامي قائماً فمشروعية الجهاد قائمة لم تنسخ، حتى إذا نزل عيسى عليه السلام في آخر الزمان فإنه ينزل حاكماً بهذا الدين، ولا يأتي بشرع جديد، بل يكون من أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعند أن ينزل يقاتل الكفار بهذا الشرع الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا الدين هو آخر الأديان وهو خاتمها، كما أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو خاتم الرسل فليس بعده رسول.

والله جل وعلا يحكم ما يريد ويفعل ما يشاء، إذا شاء نصر عباده أظهرهم وصار الجهاد ظاهراً، وجعل راية الإسلام مرفوعة، وإذا شاء ضعف المسلمين جعلهم تحت حماية الكفار، وجعل الكفار هم الظاهرين، ولكن هذا لا يكون إلا بسبب أفعال المسلمين أنفسهم، وبسبب عدم تمسكهم بدينهم وبسبب رغبتهم في الدنيا، كما قال صلوات الله وسلامه عليه: (إذا رضيتم بالزرع واتبعتم أذناب البقر وتركتم الجهاد في سبيل الله سلط عليكم ذلاً لا ينزعه حتى تراجعوا دينكم).

وفي الحديث الآخر قال صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكله على قصعتها، قالوا: أمن قلة نحن يا رسول الله؟! قال: لا؛ أنتم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، تُنزع من قلوبكم المهابة ويُقذف فيها الوهن، فقالوا: وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت)، فإذا أحب المسلمون الدنيا ورضوا بها وكرهوا الموت في سبيل الله فهنا يأتي الذل وتأتي المهانة، ويأتي تسلط العدو عليهم، ولا يكون العز إلا إذا سلكوا مثل مسلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان قائدهم إذا أتى الكفار يقول لهم: يا هؤلاء! والله لقد جئتكم بقوم يحبون الموت، كما تحبون الحياة.

هكذا كانوا يحبون الموت في سبيل الله، يحبونه كما يحب الكفار الحياة، وكانوا إذا قُتل واحد منهم يهنئونه، ويقولون: هنيئاً لك الشهادة.

وكل واحد يودُّ لو أنه هو الذي قُتل، فإذا كانوا بهذه المثابة كانوا أعزاء وأقوياء، ونصر الله معهم.

ولما ذهب عمرو بن العاص رضي الله عنه لافتتاح مصر وحصل ما حصل بينه وبين الروم جمعوا له جمعاً كثيراً قيل: إنهم بلغوا ما يقرب من أربعمائة ألف مقاتل.

وكان معه عدد قليل لا يمكن أنه يصمد بهؤلاء أمام الروم، فكتب إلى عمر رضي الله عنه يخبره بالأمر ويستحثه بأن يرسل له مدداً ويقول: أقل ما ترسل إلي أربعة آلاف.

فكتب إليه عمر رضي الله عنه يعاتبه ويقول له: احترسوا من المعاصي أشد من احتراسكم من عدوكم؛ فإنكم لا تنصرون بعددكم وعدتكم، وإنما تنصرون بطاعتكم لربكم جل وعلا وإتباعكم لسنة رسولكم صلى الله عليه وسلم، فإذا حصلت المعصية تسلط على المسلمين عدوهم ثم أرسل له أربعة رجال فقط بدل أربعة آلاف؛ ومع ذلك نصره الله جل وعلا نصراً ظاهراً على الكفار.

فالمقصود أن الله جل وعلا وعد عباده النصر بشرط التقوى والطاعة، فإذا اتقوه وأطاعوه فإن الله جل وعلا ينصرهم، وقد كان الأمر في أول الإسلام أنه لا يجوز أن يفر المسلم من عدد ضعفه مرات، فكان العشرون مأمورين بمغالبة مائتين في أول الأمر، ثم خفف عنهم وصار الضعف، فإذا كان أمام المسلمين ضعفهم فهذا أمر قد وعد الله جل وعلا بأن النصر لهم، ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لن يُغلب عشرة آلاف من قلة)، أي: مهما كانوا أعداؤهم لأن الكثرة ليس لها معنى إذا لم يكن فيها تأييد من الله، فلابد أن يكون هناك ثقة بالله، والتأييد والنصر لا يكون إلا مع الطاعة والإتباع، فإذا وجد هذا فالنصر لابد منه بإذن الله تعالى؛ لأن وعد الله حق، والله لا يخلف وعده.

وإذا ترك الجهاد في سبيل الله فالمسلمون ضعفاء ولابد، ولهذا من السنة الدعاء بإعلاء كلمة الله وإقامة الجهاد في سبيله، بل من الأمور الواجبة على المسلم أن يهتم بهذا؛ لأن الذي لا يهتم بأمر المسلمين ليس منهم، والمسلمون اليوم تمزق أشلاؤهم في كل مكان وتنتهك أعراضهم وتمتهن كرامتهم، ولا أحد ينتصر لهم مع الأسف، وهذا بسبب إعراضنا عن ديننا، أما لو كنا مهتمين بذلك فلن يتجرأ أعداء الله على شيء من ذلك، وقد عرف أن الإسلام يبني الرجال الأبطال الذين لم يسبق لهم نظير في التاريخ، ولهذا الصحابة رضوان الله عليهم فتحوا البلاد في وقت وجيز حتى وصلوا إلى المحيط الأطلسي وإلى حدود الصين، فدخلت تحت حكمهم هذه البلاد الواسعة العريضة، مع أنهم ليسوا كثرة كاثرة، بل كانوا يواجهون قوماًً يفوقونهم في أسلحتهم وفي كل إمكانياتهم، وكانت أسلحة المسلمين سيوفاً مؤثرة بالقد، وخيولهم مخطومة بالليف، وثيابهم قصيرة، وهؤلاء -أحياناً- يقاتلونهم على الفيلة، ومع ذلك نصرهم الله جل وعلا؛ لأن من صبر وأطاع الله ورسوله ينتصر على عدوه بلا شك، وهكذا إذا عاد المسلمون إلى ربهم جل وعلا وراجعوا دينهم فستعود لهم الكرة، ويصبحون قادة وسادة الدنيا؛ لأن وعد الله باقٍ، وكما كان لأول الأمة فهو لسائر الأمة بشرط الصبر والمتابعة والتقوى.

هذا مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقاتل مقاتلة عظيمة، وكان إذا اشتد القتال تدرع به الأبطال، كما جاء أنهم رضوان الله عليهم كانوا إذا اشتد القتال يتقون برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يباشر القتال بنفسه صلوات الله وسلامه عليه، وكان يقول: (لولا أن أشق على أمتي ما تركت سرية تخرج إلا وخرجت معها)، ومن باب أولى ولا جيش ولا غيره؛ ومع ذلك خرج خرجات كثيرة جداً يقاتل بنفسه صلوات الله وسلامه عليه، ولما كان في غزوة حنين كان مسروراً، والكفار قد كمنوا لهم دون علمهم، فسار المسلمون في الوادي على غفلة فرشقوهم بالنبل وهم غافلون ما استعدوا ففروا وهزموا، فعند ذلك نزل الرسول صلى الله عليه وسلم من على بغلته وصار يقول: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب، هلم إلي) فصار المسلمون يرجعون إليه شيئاً فشيئاً حتى حمي القتال، وصاروا يأتون بالأسرى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا غاية الشجاعة، فكون الصحابة ينهزمون ثم يترجل عن دابته ويعلن للناس: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب يعني: كأنه يقول: هلم إليّ إذا كان عندكم قوة وشجاعة