ما ذكره المؤلف قبل هذا يدلنا على أن العبد يجب في عبادته أن يحب الله وأن يخشاه، وأن يكون في عبادته طالباً للنجاة من الله جل وعلا، طالباً لثوابه وجزائه، هارباً من عقابه، وليس كما يقول من يقوله من المغرورين: أنا لا أعبد الله ولا أحبه لأجل جنته أو خوفاً من ناره، فإن هذا غرور وجهل بالواقع، فالإنسان ضعيف، ولو أن الإنسان أصيب بعذاب فإنه سوف يظهر ضعفه بسرعة، وسوف يتنصل مما يقول، وقد ذكر عن بعض السلف الذين كانوا معروفين بالتصوف -وهو الشبلي رحمه الله- أنه كان يقول: أنا لا أعبد الله طلباً لجنته، فابتلي بحبس البول، انحبس البول فصار يمشي إلى الصبيان ويقول: استغفروا لشيخكم الكذاب، فإنه تبين كذبي؛ إذ إني لا صبر لي على العذاب.
وهذه موعظة وعظ بها.
أما ما ذكر عن رابعة العدوية أنها كانت تقول: أنا لا أعبده لجنته ولا خوفاً من ناره، وإنما أعبده لحبه، فهذا لا يصح عنها، وإنما هو من قول الذين لهم شطحات ممن هم غير عارفين بالشرع، وإلا فالله جل وعلا قد أكثر من ذكر الجنة وذكر النار في كتابه، حتى يكون هذا حادياً على العبادة الرغبة والرهبة، وقد أخبر عن سادات أوليائه الذين هم الأنبياء أنهم كانوا يعبدونه رغباً ورهباً، رغباً في ثوابه، ورهباً من عقابه جل وعلا، ولا تستقيم العبادة إلا بهذا، فلا صبر للعبد على عذاب الله، كما أنه لا غنى له عن رحمته، فهو ضعيف مسكين محتاج إلى ربه جل وعلا، والله جل وعلا غني عنه من كل وجه، وطاعة الطائعين لا تنفع الله، كما أن معصية العاصين لا تضر الله جل وعلا، وإنما الطائعون يطيعون لأنفسهم، ويجتنبون المعاصي وقاية لأنفسهم من عذاب الله، وإلا فقد قال الله جل وعلا في الحديث القدسي:(يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل سائل مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر).
والمقصود بالمخيط الإبرة، فالإبرة إذا أدخلت في البحر ثم نزعت هل تنقص من البحر شيئاً؟ لا، ذلك أنه جل وعلا إذا أراد شيئاً قال له كن فيكون، وكل شيء في ملكه.
ثم يقول الله جل وعلا في آخر الحديث:(إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه)، فالعمل لأجل النجاة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:(كل الناس يغدو: فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها) كيف يبيعها ويعتقها؟ بائع هنا معناه مشتري، بائع نفسه يعني: مشتريها، إما أن يشتريها بطاعة الله جل وعلا، واجتناب المعاصي، فيعتقها من عذاب الله، أو يبيعها في طاعة الشيطان فيوبقها، وإباقها كونه يعمل بالمعاصي ثم يجزى شراً.
فلا غنى للعبد عن محبة الله وعبادته، ومحبة الله تكون خوفاً من عذابه، ورجاءً لثوابه، العبادة مبناها على الخوف والرجاء، فيجب أن يكون العبد خائفاً راجياً دائماً.
أما إذا عبد الله جل وعلا بالخوف وحده فإنه -كما قال السلف- يكون حرورياً، والحروري معناه: الخارجي، فالخوارج يكفرون المسلمين بمجرد الذنوب، ويخلدونهم في النار، فمن فعل ذنباً من الذنوب قالوا: إنه كافر يجب قتله، وإذا مات فهو خالد في جهنم؛ لأنهم عبدوا الله بالخوف.
وإذا عبد الإنسان ربه بالرجاء صار مرجئاً، والمرجئة أضل من هؤلاء، فإنهم تركوا الأعمال وقالوا: يكفي الإيمان القائم في القلب، فلا بد للعبد أن يكون ممتثلاً لأوامر الله جل وعلا مع ما يقوم في قلبه من حب الله وتعظيمه والذل له والإخلاص له، ويقصده بالعمل كله.