للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[علو الله تعالى وملكه وعظمته]

قال الشارح رحمه الله تعالى: [وقوله: (وعامرهن غيري) هو بالنصب عطف على السموات، أي: لو أن السموات السبع ومن فيهن من العمار غير الله تعالى والأرضين السبع ومن فيهن وضعوا في كفة الميزان، و (لا إله إلا الله) في الكفة الأخرى مالت بهن لا إله إلا الله].

هذا أيضاً يدلنا على أن السماوات فيها عمار، أي: عباد يعبدون الله جل وعلا ويعمرونها بالعبادة لأن عمارة السموات والأرض بالعبادة، أما المعاصي فهي إفساد في الأرض، كما قال الله جل وعلا عن أهل المعاصي: {الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} [الشعراء:١٥٢]، وهذا عجيب؛ لأن غير العقلاء لا يعصون الله، ولهذا أخبرنا ربنا جل وعلا أن الشجر والدواب والجبال تسجد لله، وأن كثيراً من الناس حق عليهم العذاب، فأهل العقل والفكر هم الذين يتنكرون لله جل وعلا ويعرضون عن عبادته، فعمارة الأرض هي بعبادة الله جل وعلا واتباع وحيه واجتناب مناهيه.

ويدلنا أيضاً على أن ربنا جل وعلا في السماء، ومعنى كونه في السماء أنه في العلو، ولا يجوز أن يعتقد أن الله في السفل تعالى وتقدس.

فالسماء إذا جاءت في مثل هذا الكلام فإما أن يراد بها السماء المبنية التي هي السبع الطقات التي ذكر الله جل وعلا أن لكل واحدة منهن مكاناً معيناً، وبينها وبين التي تليها مسافة معينة وفضاء، وأن فيها عماراً يعمرونها بامتثال أمر الله وفعل ما أمروا به.

وإما أن يراد بها مجرد العلو، كقوله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:١٦] يعني: من في العلو.

فهذا معناه، وليس (في) هنا تدل على الظرفية، كقول القائل: الماء في الإناء.

قوله: (لو أن السموات السبع وعامرهن غيري) الله جل وعلا يعمر كل شيء، بمعنى أنه هو الذي أوجده، وهو الذي يقوم على مصالحه، كما في الحديث الذي في صحيح مسلم: عن أبي موسى الأشعري قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات) يعني أنه قام خطيباً، وهذه عادته صلوات الله وسلامه عليه، فيعلم أصحابه الأصول والكلمات الجامعة البليغة، ولا يزيدهم كثيراً، وهنا قام فيهم خطيباً بخمس كلمات فقط، فقال: (إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلق)، فهو القائم على خلقه بما يصلحهم، وهو الذي يقيم السماوات والأرض، فهو قيوم السموات والأرض، ولو أراد إذهاب السماء ومن فيها بلحظة فعل، ولو أراد تغييرها إلى ما يشاء فعل، ولكنه أقامها على هذا الوضع المعين المنسق المتقن الذي لا يختل حتى يشاء جل وعلا، وليس الملائكة ولا غيرهم ولا الطبيعة ولا غير ذلك، فهو جل وعلا فوق، وهو مستوٍ على عرشه، كما قال الله جل وعلا: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} [الأعراف:٥٤].

يعني أنه يتصرف في الكون كله حسب إرادته جل وعلا، فهو القائم على كل شيء بما يصلحه، السماء وما فيها والأرض وما فيها، فاستثنى نفسه في هذا الحديث.

فنص على أن السموات سبع، ثم استثنى نفسه فقال: (غيري)؛ لأنه جل وعلا أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، ولا يمكن أن يقاس بشيء من خلقه، وإن كان هذا من صفاته، أي: قول (لا إله إلا الله) من صفاته التي يستحقها، فليس مخلوقاً، وإنما المخلوق عمل الإنسان، فعمل الإنسان هو المخلوق، ولو وضعت كل المخلوقات في مكان لكانت صغيرة حقيرة بجانب الله جل وعلا، وقد جاء قول الله جل وعلا: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر:٦٧]، يعني: ما عظموا الله حق تعظيمه، وما عرفوه حقه حق المعرفة، {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:٦٧].

فيوم القيامة يفعل ذلك، وإلا فلو شاء لقبض كل مخلوقاته بيده السموات والأرض ومن فيهما وصارت بيده كلها صغيرة حقيرة ليست بشيء، وعلى هذا فكيف يسوغ لإنسان أن يقول في مثل قول الله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ} [الحديد:٤]: إنه معنا في البيوت وفي الأرض وفي الأمكنة؟ تعالى الله وتقدس، فهل هذا عرف الله؟ كلا -والله- لم يعرفه، فضلاً عن أن يقدره حق قدره.

فالله جل وعلا لا يعرفه من لم يتعرف عليه بأوصافه التي وصف بها نفسه، أما إذا رجع إلى فكره أو إلى شيخه أو إلى ما تلقاه ممن هو نظير له فلن يعرف الله أبداً؛ لأن العقل لا يوصله إلى هذا، وكذلك الأفكار البشرية لن توصله إلى هذا، وإنما هذا يكون من الله جل وعلا، قال تعالى: {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة:١٤٠]، فالله جل وعلا هو الذي يجب أن يكون الإنسان متبعاً لقوله، ويتعرف على ربه بما عرف به نفسه وتعرف به إلى عباده.

فإذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله يمهل حتى إذا بقي ثلث الليل الأخير نزل إلى السماء الدنيا فبسط يده وقال: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ هل من تائب فيتاب عليه؟)، فمن يقول: هذا النزول معناه عبارة عن نزول أمره أو نزول رحمته أو نزول ملك من الملائكة من يقول ذلك لم يعرف به.

وكذلك إذا سمع قول الله جل وعلا: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} [البقرة:٢١٠] قال: (يأتي) أي: يأتي أمره وقضاؤه، أو يأتي حكمه، أو يأتي ملكه، أو ما أشبه ذلك، أما إتيانه فهو مستحيل؛ لأن الانتقال من مكان إلى مكان من خواص الأجسام هكذا يقول، فنقول: هل عرف هذا ربه؟ كلا والله، الذي يقول هذا القول لم يعرف ربه، لم يعرف إلا الرب الذي يعتقده هو، فليس هو الله، أما لو تعرف على الله لعلم أنه ينزل وهو على عرشه، ويأتي يوم القيامة وهو فوق كل شيء، وأنه لا يمكن أن تكون سماء تظله أو تقله تعالى وتقدس، بل هو أكبر وأعظم من كل شيء؛ حيث إنه جل وعلا يقبض جميع مخلوقاته بيده، كما قال ابن عباس رضي الله عنه في تفسير هذه الآية: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر:٦٧]: قبض السماوات السبع والأراضين ومن فيهن بيمينه، وبقيت يده الأخرى فارغة ليس فيها شيء، وإنما يستعين بيده الأخرى من شغلت إحدى يديه، هكذا جاء عنه رضي الله عنه وهو حبر الأمة، والرسول صلى الله عليه وسلم بين لنا هذا ووضحه، فيجب على الإنسان أن يؤمن بربه وفق ما أخبر عن نفسه وأخبرت عنه رسله وإلا زل وضل.

فقوله هنا: (لو أن السموات السبع وعامرهن غيري) استثنى نفسه لأنه أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، ولا يمكن أن يكون المخلوقات كلها بالنسبة إلى الله شيئاً أبداً.