للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[قوله تعالى: (قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله)]

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقول الله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} [المائدة:٦٠]].

هذه الآية أيضاً في اليهود، وذلك أنهم يستهزئون ويسخرون من المؤمنين، فقوله: (أنبئكم بشر من ذلك) إشارة إلى ما صدر منهم من الاستهزاء، وأنهم يقولون: أنتم وإن كنتم على حق فأنتم تخلفونا في النار؛ لأننا نبقى في النار أياماً معدودات ثم تكونون أنتم بدلنا ونحن نخرج، وهذه من تمنياتهم، ويقولون: ما رأينا أهل دين أشر منكم، هكذا كانوا يقولون للمؤمنين، ما رأينا أهل دين أشر منكم، فقال الله جل وعلا: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ} يعني: مما تظنونه بنا وتصمونا به، هو أنتم الذين لعنهم الله وغضب عليهم، وجعل منهم القردة والخنازير، وجعل منهم من عبد الطاغوت.

هذا هو الصواب في تقدير الآية، وأن هذه أفعال معطوفة بعضها على بعض، وقد استشكل كثير من المفسرين قوله: (وعبد الطاغوت) من ناحية الإعراب، وهذا ليس فيه إشكال في الواقع وإن كان الفاعل مختلف، فالأفعال الأولى الفاعل فيها هو الله، أما هذا فالفاعل فيها هم اليهود الذين عبدوا الطاغوت.

وهذا يدل على أن الإنسان يرث آباءه وأجداده إذا كان على نهجهم وعلى طريقهم، ولكنه إذا تبرأ من باطلهم وعمل بالحق فلا يضره هذا الشيء، والقردة والخنازير هم اليهود وقد ذكرهم الله في قوله جل وعلا: {الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة:٦٥]، وقد ذكر الله قصتهم في سورة الأعراف، وذلك أن الله جل وعلا أمرهم بتعظيم يوم السبت واحترامه، وحرم عليهم اصطياد الحيتان فيه، والله جل وعلا إذا أمر عبده فقد يبتليه هل يكون صادقاً في امتثال الأمر أو يكون كاذباً؟ كما قال الله جل وعلا: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:٢]، وآيات كثيرة في هذا المعنى.

فصارت الحيتان تأتيهم يوم السبت، وتخرج من الماء على ساحل البحر بكثرة، وإذا ذهب السبت ذهبت فلا يرون منها شيئاً، فلما طال عليهم ذلك تحيلوا، فوضعوا الشباك، ووضعوا الحفر، فتأتي الحيتان وتقع فيها، فيتركونها فيها إلى أن تغيب الشمس يوم السبت فيأخذونها، وهذا صورته كأنه موافق للحق، ولكنه حيلة على الباطل؛ ولهذا فالقردة من أقرب الحيوانات في الصورة الظاهرة إلى الإنسان، فمسخهم الله جل وعلا على وفق صنيعهم؛ لأن ظاهر صنيعهم ليس باطلاً؛ لأنهم ما أخذوا الحيتان من البحر إلا بعدما ذهب السبت؛ فجعلوا قردة.

ذكر المفسرون أنهم انقسموا إلى ثلاثة أقسام كما ذكر الله جل وعلا في القرآن: طائفة صنعت هذا، وطائفة أنكرت عليهم، والطائفة الثالثة: قالت للمنكرين: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ} [الأعراف:١٦٤] يعني: أنه لا فائدة في الكلام معهم، فقد ارتكبوا أمراً واضحاً، فقال الواعظون والمنكرون: {قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف:١٦٤] يعني: أننا نفعل هذا إعذاراً حتى يعذرنا الله جل وعلا؛ لأننا إذا سكتنا ولم ننكر كنا معهم، ولم نعذر بذلك، فاعتزلوهم وتركوهم، فلما كان يوم من الأيام أصبحوا ولم يروا أحداً خرج من البلد، فعجبوا! وقالوا: لا بد أنه حصل شيء، فأتوا إليهم فإذا هم قد مسخوا قردة وخنازير.

يقول ابن عباس وغيره: شبابهم صاروا قردة، وشيوخهم خنازير، أما القردة والخنازير الموجودة الآن فليست مسخاً، بل هي من الحيوانات التي خلقها الله جل وعلا، وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه سئل: هل هذه القردة مسخ؟ فقال: إن الله إذا مسخ أمة لم يجعل لها نسلاً)، فالذي يمسخ ليس له نسل، فعلى هذا قول بعض الناس: إن الفأر أو الضب أو ما أشبه ذلك كان آدمياً ومسخ، هذا خطأ، ليس الأمر كذلك؛ لأن المسخ عذاب، والمعذب يهلك ولا يكون له نسل كما في هذا الحديث.

وهذا يدلنا أيضاً على أن هؤلاء لهم نصيب مما فعله أولئك؛ لأنهم يتحيلون على الباطل بوجوه متعددة، ومن تحيل على الباطل فإنه يتحيل على ربه جل وعلا، والله لا تخفى عليه خافية، يعلم ما في الصدور، ولا يجوز أن يظهر الإنسان شيئاً في عمله، ويبطن خلافه في قلبه فإن الله يعلمه، وسوف يحاسبه عليه: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:٢٨٤] المقصود بهذا أن هؤلاء خالفوا أمر الله جهاراً عن عمد، ووجه الدليل من الآية يظهر في الحديث الذي سيذكره، وهو أن هذه الأمة ستعمل ما عملته اليهود والنصارى وفارس والروم وغيرها من الأمم السابقة، ولهذا ثبت أنه يكون في هذه الأمة مسخ، يعني: أن فيهم طائفة تمسخ قردة وخنازير؛ لأنهم يفعلون مثلما فعل اليهود فيعاقبون كما عوقب أولئك.

وكذلك يكون فيهم رجم بالحجارة من السماء؛ لأنهم يفعلون كما يفعل قوم لوط، فيرجمون كما رجم قوم لوط، ويكون فيهم خسف كما حدث في الأمم السابقة، فإن منهم من خسف به كما ذكر الله جل وعلا ذلك، وهذا ثابت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ومن ذلك الشرك الذي وقعوا فيه، فإنهم عبدوا أحبارهم ورهبانهم وقالوا: عزير ابن الله، والنصارى قالت: المسيح ابن الله، وصارت تعبد ثلاثة: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:٧٣] وكل ما وقع في اليهود والنصارى سيقع مثله في هذه الأمة لا يخطئونه في شيء، هذا هو وجه الاستدلال من الآيات، ويظهر ويتضح بذكر حديث أبي سعيد رضي الله عنه الذي سيأتي.

قال الشارح رحمه الله تعالى: [يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد! هل أخبركم بشر جزاء عند الله يوم القيامة مما تظنونه بنا؟ وهم أنتم أيها المتصفون بهذه الصفات المفسرة بقوله: (من لعنه الله) أي: أبعده من رحمته (وغضب عليه) أي: غضباً لا يرضى بعده أبداً، (وجعل منهم القردة والخنازير).

وقد قال الثوري: عن علقمة بن مرثد عن المغيرة بن عبد الله عن المعرور بن سويد أن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القردة والخنازير أهي مما مسخ الله؟ فقال: إن الله لم يهلك قوماً -أو قال: لم يمسخ قوماً- فيجعل لهم نسلاً ولا عقباً، وإن القردة والخنازير كانت قبل ذلك) رواه مسلم].

العجيب أن بعض دعاة الشر من اليهود -كما هو معروف- جاء بنظرية يقول: إن الأصل في البشر هو القردة، والإنسان فصيلة منها.

واتبعه على هذا القول الباطل البين البطلان طوائف كثيرة، ثم بعد ذلك لما جاء نظيره من الكفار يبطل هذه النظرية رجع هؤلاء، مع أن الله جل وعلا يذكر لنا أنه خلق آدم بيده، وأنه خلقه من طين، كما جاء في آيات متعددة كثيرة، فكيف يعتنقون قول هذا الفاجر الخبيث ويأخذون به مع وضوح هذا الأمر؟! وهذا من الأدلة على أن الله جل وعلا إذا أراد إضلال إنسان فإنها لا تنفع فيه الأدلة الواضحة الجلية.

والغريب أن هذا وقع لبعض العلماء الذين يكتبون الكتابات، وموجود عندنا بعض هذه الكتب، بعضها يسمى دائرة المعارف يقول صاحبها: نحن نؤيد نظرية دارون، فإن قيل لنا: كيف تقولون بما ذكره الله جل وعلا في القرآن من أنه خلق آدم من طين؟ نقول: هذا أمره سهل، نؤوله كما أولنا قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥] يعني: بهذه السهولة وبهذا الأمر نؤول القرآن؛ لأن كافراً من الكفار قال هذا القول، والتأويل هذا إبطال وتكذيب في الواقع، وتحريف لا يجوز أن نسميه تأويلاً، وأشياء كثيرة من هذا القبيل.

فالإنسان يجب أن يكون على حذر دائماً، فيكون إمامه هو كتاب الله، وفي هذه الآية دليل واضح على أن الله جل وعلا يلعن من يشاء، إذا أراد أن يلعن لعن، كما أنه يرحم من يشاء، ويغضب على من يشاء: {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ} [المائدة:٦٠] وهذه من صفات الفعل التي تتعلق بمشيئته، إذا شاء أن يفعلها فعلها كما يشاء، فيجب أن يوصف الله جل وعلا بذلك وهذا كثير.