للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الخوف والرجاء]

قال الشارح رحمه الله تعالى: [القنوط استبعاد الفرج واليأس منه، وهو يقابل الأمن من مكر الله وكلاهما ذنب عظيم وتقدم ما فيه لمنافاته لكمال التوحيد.

وذكر المصنف رحمه الله تعالى هذه الآية مع التي قبلها تنبيهاً على أنه لا يجوز لمن خاف الله أن يقنط من رحمته؛ بل يكون خائفاً راجياً، يخاف ذنوبه ويعمل بطاعته ويرجو رحمته، كما قال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:٩]، وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:٢١٨]].

يقول بعض العلماء: ينبغي للإنسان ما دام في صحته وقوته أن يكون الخوف أغلب عليه حتى يكون العمل أمامه، أي: يعمل لأجل ذلك، أما إذا كان في المرض والضعف فإنه ينبغي أن يعكس القضية ويكون الرجاء أغلب عنده من الخوف؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن ظنه بربه) , وفي الحديث الآخر أن الله جل وعلا يقول: (أنا عند ظن عبدي بي، فإذا ظن خيراً وجده وإن ظن شراً وجده) , فيقدم الرجاء، وينبغي إذا كان في المرض أن يذكر بأعماله الطيبة الصالحة حتى يكون ذلك داعياً لرجائه فيغلب الرجاء، وذلك لأنه في هذه الحالة أصبح لا يستطيع أن يعمل، وبقي معه عمل القلب فقط، فيأتي بعمل القلب وهو الرجاء حتى يغلب الخوف فيكون ممن ظن ظناً حسناً؛ ليكون الله عند ظنه هذا الذي ذكره بعض العلماء، وبعضهم يقول: بل يكون بين الخوف والرجاء دائماً، فإنه إذا غلب أحدهما الآخر فسد القلب، فالذي يغلبه الخوف يقع في طريقة الخوارج والحرورية وأهل الوعيد مثل المعتزلة، والذي يغلبه الرجاء قد يدعوه ذلك إلى أن يقع في طريقة المرجئة الذين تركوا الأعمال وأصبحوا يرون أن الإيمان يكفي فيه عمل القلب الذي يقولونه، وإلا فليس هو عمل قلب في الواقع، وإنما هي أمور وتصورات خاطئة، ويجب أن يكون الإنسان بين هذا وهذا بين الخوف والرجاء دائماً.

قوله: [الرجاء مع المعصية وترك الطاعة غرور من الشيطان؛ ليوقع العبد في المخاوف مع ترك الأسباب المنجية من المهالك، بخلاف حال أهل الإيمان الذين أخذوا بأسباب النجاة خوفاً من الله تعالى وهرباً من عقابه وطمعاً في المغفرة ورجاءً لثوابه.

والمعنى: أن الله تعالى حكى قول خليله إبراهيم عليه السلام لما بشرته الملائكة بابنه إسحاق: {قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِي الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} [الحجر:٥٤]؛ لأن العادة أن الرجل إذا كبر سنه وسن زوجته استبعد أن يولد له منها، والله على كل شيء قدير، فقالت الملائكة: (بشرناك بالحق) الذي لا ريب فيه، فإن الله إذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون، (فلا تكن من القانطين) أي: من الآيسين، فقال عليه الصلاة والسلام: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ} [الحجر:٥٦]، فإنه يعلم من قدرة الله ورحمته ما هو أبلغ من ذلك وأعظم، لكنه -والله أعلم- قال ذلك على وجه التعجب!].

هو على وجه التعجب؛ لأن العادة التي أجرى الله جل وعلا عليها خلقه أن المرأة إذا كبرت وتعدت الخمسين لا يولد لها، فهذا شيء اعتاد عليه الخلق، فإذا خرج عن ذلك شيء فهو من آيات الله، وإلا فإن إبراهيم عليه السلام يعلم أن الله على كل شيء قدير، فهو الذي خلق آدم من التراب، وخلق عيسى من امرأة من دون ذكر، وخلق حواء من ذكر بلا امرأة، فهو قادر على أن يخلق ما يشاء، فخلق بني آدم وجعلهم جل وعلا على أصناف أربعة؛ ليبين قدرته: فآدم خلق من تراب، فهو إنسان حي سميع بصير يعلم ويتكلم ومع ذلك خلق من تراب ميت يابس! فهذا من تراب بقدرة الله جل وعلا.

هذا قسم.

القسم الثاني: المرأة التي خلقت من آدم -حواء- فإنها خلقت من ضلعه فهي بضعة منه.

والقسم الثالث: عكس القسم الثاني: رجل خلق من امرأة فقط بدون أن يتصل بها ذكر وهو عيسى عليه السلام فقط.

والقسم الرابع: العادة التي أجراها الله أن المولود يكون من بين ذكر وأنثى، ولهذا لا يستغرب الناس ذلك مع أنه غريب في الواقع، ولهذا يأمر الله جل وعلا بالتفكر فيه، كيف يخلق هذا الحي العجيب من نطفة؟! ولهذا كثيراً ما يذكر الله جل وعلا هذا لنتعجب ولنتفكر فيقول جل وعلا: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:٢١]، يعني فيها آيات ولكنكم معرضون عنها: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ} [الطور:٣٥]، {فَلْيَنظُرْ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ} [الطارق:٥]، ينظر ويتعجب من أين خلق؟! {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} [عبس:١٧ - ٢٢].

إلى غير ذلك من الآيات الدالة على وجوب التفكر في هذا الخلق.

فإبراهيم عليه السلام نظراً للعادة التي عليها الخلق، لما بشروه بإسحاق وقد بلغ من السن عتياً هو وزوجته ولماذا إسحاق وليس إسماعيل؟ لأن ولده الكبير إسماعيل ليس من زوجته بل من أمته هاجر، وهي أمة وهبتها له زوجته سارة، فلما ولدت غارت منها، فهاجر بها إبراهيم إلى مكة ووضعها هي وابنها هناك، وتركهما وليس معهما أحد، كما هو معروف في القصة، وهذه البشارة جاءت بعد ذلك حينما جاءت الملائكة لإهلاك قوم لوط، كما ذكر الله جل وعلا ذلك في سورة الذاريات: {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ} [الذاريات:٣١ - ٣٣] , يعني: قوم لوط، {قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا} [العنكبوت:٣٢].

فالمقصود: أن هذه البشارة كانت متأخرة عن مولد إسماعيل، ولهذا فإن إسحاق هو أبو الأنبياء، فإن الذين جاءوا من بعده كلهم من ولد إسحاق إلا محمداً صلى الله عليه وسلم فقط فهو من ولد إسماعيل، أما البقية فمن ولد إسحاق، والله جل وعلا ما أرسل نبياً بعد إبراهيم إلا من ذريته، فكل الأنبياء الذين أرسلوا بعد إبراهيم من ذرية إبراهيم.

المقصود: أنه قال هذا لما قَالُوا: بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ, أي: بالشيء الواقع الثابت الذي لا يتغير ولا يتبدل: {فَلا تَكُنْ مِنْ الْقَانِطِينَ * قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ} [الحجر:٥٥ - ٥٦]، أي: لست من القانطين، ولكن هذا أمر خرج عن العادة، فقوله: (فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) كأنه ظنهم من آحاد الناس فقال: كيف تبشرونني بهذا وأنا في هذا السن وزوجتي عجوز -كما قالت هي: عجوز عقيم- يعني: كيف تلد وهي بهذه الصفة؟ فأخبروه أنهم رسل الله وأنها بشارة من الله جل وعلا، فلما كان كذلك لم يكن هناك مجال للقنوط.

وقوله: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ} [الحجر:٥٦]، الضال: هو الذي ترك الحق وارتكب غيره -أضاع طريقه- فصار طريقه ليس الطريق السليم المنجي بل هو المهلك، ولهذا فسره بعض العلماء بالهالكين، فالذي ضل يهلك، والذي يقنط من رحمة ربه يكون هالكاً.

قال رحمه الله: [قوله: (إِلاَّ الضَّالُّونَ)، قال بعضهم: إلا المخطئون طريق الصواب أو إلا الكافرون، كقوله تعالى: {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:٨٧]].