[أحكام ما بعد الشهادتين]
ثم إذا أجابوه إلى هذا فالقتال ينتهي ويتوقف، ولا يقاتلهم، بل أصبحوا إخواناً للمسلمين لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، فينصرفون عنهم ويتركونهم وبلادهم، أما إذا أبوا فلابد من المقاتلة.
ثم بعد هذا يقسم صلوات الله وسلامه عليه: (والله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)، وقسم الرسول صلى الله عليه وسلم هنا لتعظيم الأمر وتضخيمه لدى السامع، وإلا فالرسول صلى الله عليه وسلم صادقٌ مصدوق فيما يخبر به، لو أخبر بخبر بدون قسم يجب قبوله وتصديقه، ولكن جاء بالحلف والقسم لتعظيم الأمر حتى يُتنبه له ويرغب فيه.
فهداية رجل واحد خيرٌ لمن دعا إلى الهدى من حمر النعم، وحمر النعم هي النوق الحمر، وهي أنفس ما لدى العرب من الأموال، والمعنى -كما يقول العلماء- أن هداية رجل واحد خيرٌ لك من أموال الدنيا وما طلعت عليه الشمس، ثم الأمر مثلما يقول النووي رحمه الله في شرحه لهذا الحديث، يقول: هذا تمثيل تقريبي للأفهام، وإلا فذرةٌ من الآخرة تساوي ما في الأرض ومثله معه.
يعني أن الأموال التي في الدنيا لا تساوي هداية الرجل الذي يهتدي على يدي الداعية، بل ولا ما هو أقل من ذلك، بل إنما هذا هو تقريبٌ للأفهام، ومن المعلوم أن الناس يحرصون على أمور الدنيا، ويرغبون فيها، وأكثرهم يزهد في أعمال الآخرة، فيحتاجون إلى تبيين وإيضاح وإلى ضرب الأمثال، من أجل ذلك جاء ضرب المثل؛ لأن أكثر الناس تكون رغبته وتعلقه في أمور الدنيا، ويغفل عن أمور الآخرة.
فقد جاء أن مكان سوط في الجنة أفضل من الدنيا مائة مرة؛ لأن الدنيا زائلة وذاهبة، ومهما حصل للإنسان من الأموال والأغراض التي يريدها فسوف تنقطع وتذهب كأن لم تكن، بخلاف ما يحصل عليه من أسباب رضا الله جل وعلا، فإنه يوصله إلى السعادة الأبدية التي لا تفنى، ومعلوم أن الإنسان يتنقل من دار لأخرى، وجعل في هذه الدار ليزرع ويعمل ثم يموت، فلابد من الموت، وبعد الموت يكون جزاؤه على قدر عمله في هذه الحياة، إن كان امتثل أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وأطاع الله جل وعلا فهو السعيد الذي يلقى ما لا عين رأته، ولا أذن سمعت به، ولا خطر على قلب بشر، أما إذا كان أطلق لنفسه العنان وأصبح لا يبالي بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم واتباعه فإنه أمده قصير ومرجعه إلى الله، وسوف يعذبه العذاب الذي لا يتصور، فعذاب الله ليس كعذاب الخلق، الخلق مهما أوتوا من البطش والظلم.
ومن عدم الرأفة والرحمة فإن عذابهم ينقطع بموت المعذب، فمهما أوجدوا له من أنواع العذاب سوف يموت، ولكن رب العالمين يعذب بغير موت، يعذبه العذاب الذي لا يطاق، ولا يأتيه الموت، بل كما يقول الله جل وعلا في وصف المُعذب: {يَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} [إبراهيم:١٧] يعني: أسباب الموت تأتيه متنوعة ولكن لا يموت فيها ولا يحيا، لا حياة ولا موت، عذاب أبدي: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:٥٦]، وهذا أبد الآباد ما دامت السماوات والأرض، وينساهم الله جل وعلا في جهنم، نارٌ أوقد فيها حتى صارت لا تطاق: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:٦].
إذا قال الله جل وعلا: خذوه -أي: المجرم- تبادره من الملائكة من لا عدد لهما -فما يعلم عددهم إلا الله- أيهم يأخذه ويلقيه في جهنم.
فالمقصود أن الإنسان أعد لأمر عظيم: قد هيأوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل الإنسان خلق لأمر عظيم، خلق للجنة أو للنار، ولهذا الناصح الأمين صلوات الله وسلامه عليه يقول: (لا تنسوا العظيمتين الجنة والنار) لا يجوز للعاقل أن ينساهما؛ لأن مصيره إلى واحدة منهما ولابد، لا يوجد مكان ثالث، إما أن تكون في الجنة أو تكون في النار فقط، ثم بعد هذا إذا استقر الإنسان في واحدة منهما يجاء بالموت في صورة كبش، فيقال لأهل الجنة: يا أهل الجنة فينظرون ويشرئبون وهم يرجون فضلاً على فضل، فيقال لهم: أتعرفون هذا؟ فيقولون: نعم.
هذا الموت.
ثم ينادى أهل النار: يا أهل النار فيشرئبون كأنهم يرجون فرجاً، فيقال لهم: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم.
هذا الموت.
فيذبح بين الجنة والنار، ويقال: خلود ولا موت.
انتهى الموت، فلو أن أحداً يموت من الحسرة منهم لماتوا عند ذلك؛ لأنهم يطلبون وينادون: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:٧٧]، فمالك خازن النار يدعونه: ((ليقضِ علينا ربك)) أي: ليمتنا حتى نرتاح من هذا العذاب.
جاء أنهم يدعون سنين طويلة، وبعد آلاف السنين يقال لهم: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:١٠٨] فالجواب يأتي بعد وقت طويل جداً جواباً شديداً جداً: ((اخسئوا فيها ولا تكلمون))، فعند ذلك لا يبقى إلا الزفير والشهيق، {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} [هود:١٠٦] خالدين أبداً.
فكيف يهنأ الإنسان بالنوم والأكل والضحك وهو يعرف أن مصيره إلى هذا؟! إن الأمر مثلما قال أحد السلف لما كان يبكي ويدع النوم فعوتب على البكاء فقال: والله لو توعدني ربي أن يسجنني في حمام لحق لي أن أبكي وأن أقلق، فكيف وقد توعدني إن عصيته أن يسجنني في جهنم،؟! والإنسان ما له عمر آخر، فإذا مات وانقضت حياته لا يعود.
فإذاً لابد إذا كان له نصيب من السعادة أن يقبل عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم بكل ما يستطيع.