[قوله: (وألا يسلط بعضهم على بعض)]
قوله: (وألا يسلط بعضهم على بعض) فهذه منعها؛ لأن الله جل وعلا قال: (يا محمد! إني إذا قضيت قضاءً فإنه لا يرد) وإن الله قضى أن يسلط بعضهم على بعض، وبهذا يستدل بأن ما قدره الله وقضاه لا يمكن تغييره، ولا يمكن تبديله، وأن الدعاء لا يؤثر في ذلك ولا يجدي.
وأما ما جاء في بعض الأحاديث أنه: (لا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا صلة الرحم) أو قال: (إن الدعاء يرد القضاء، وإن صلة الرحم تزيد في العمر) فليس هذا كما قد يتبادر إلى ذهن الإنسان من أول وهلة، أنه إذا دعا زاد عمره بالدعاء، وإذا وصل رحمه زاد عمره بالصلة، فالمعنى: أن تقدير الله لا يتغير، وقد قال بعض العلماء: إن هذا معناه: أن الإنسان يكون أمامه تقديرين: تقدير مثلاً أنه يبلغ ثمانين سنة إذا وصل رحمه، وستين سنة إذا لم يصل رحمه، فإن وصلها بلغ ذلك، وإن لم يصلها لم يبلغ ذلك.
وتقدير أنه يكون عليه كذا وكذا إن لم يدع، وإن دعا امتنع ذلك، وهذا غير صحيح؛ لأن هذا شأن الجاهل، والله علام الغيوب لا يخفى عليه شيء، ويعلم الذي يقع كيف يكون، وقد كتب كل شيء قبل وجود الخلق، كما جاء في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله كتب مقادير الخلائق قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء) وفي السنن والمسند من حديث عبادة أنه قال عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، فجرى في تلك الساعة ما هو كائن إلى يوم القيامة).
فقوله (مقادير الأشياء) يعم كل شيء، وقوله في هذا الحديث: (أول ما خلق الله القلم فجرى في تلك الساعة ما هو كائن إلى يوم القيامة) يعم كل شيء، حتى حركة يد الإنسان ووضعها على وجهه أو على أي شيء، فلا يمكن أن أي حركة تحدث أو أي سكون إلا بمشيئة الله، وقد كتبت، فيكون المعنى: إن من الأشياء التي كتبت وقدرت وفرغ منها أن هذا الشخص يدعو ويكون عنده ابتهال وتضرع، ويكون هذا سبب زيادة عمره، فالدعاء نفسه من القدر.
وكذلك هذا الواصل قد كتب في الأزل أنه يصل عمره، وتكون هذه الصلة سبباً لزيادة العمر، فلا يكون فيه إشكال في ذلك، ولا يكون كما قيل: هناك تقديران، فهذا شأن الجاهل الذي لا يعرف ما الذي يقع تعالى الله وتقدس عن ذلك، فعلى هذا قول الله جل وعلا في إجابته لرسوله: (إني إذا قضيت قضاءً فإنه لا يرد) على عمومه.
كل شيء قضاه وكتبه في الأزل فإنه لا بد من وقوعه ولا يتغير.
أما قول الله جل وعلا: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:٣٩] فقد ذكر العلماء فيها أقوالاً، وأصح ذلك قول أحدهم: إن هذا المحو والإثبات في صحائف الملائكة، التي يسجل بها عمل الإنسان في اليوم، فإذا صار آخر النهار يمحون الشيء الذي ليس فيه جزاء وليس عليه عقاب، يعني: لا يترتب عليه عقاب ولا ثواب، مثل: أعطني القلم خذ الكتاب أعطني الكأس وما أشبه ذلك، هذه تمحى، ويثبت الشيء الذي يكون فيه الجزاء، وكل هذا مقدر مكتوب، ولكن هذا محو في الصحائف؛ لأن الصحائف يسجل فيها أعمال الإنسان التي يجازى بها، ويوم القيامة إذا بعث يعطى كتابه ويقال له: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:١٤] يعني: حاسب نفسك أنت، انظر صحائفك صحيفتك التي سجلت عليك منذ بلغت إلى أن تموت، أين هذه الصحيفة؟ في أيدي الملائكة يحفظونها، قال الله: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:١٠ - ١٢]، {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:١٦ - ١٨].
فالملك يترقب أي لفظ تتلفظه ليسجله ويكتبه؛ وهما اثنان: واحد يكتب الحسنات، والآخر يكتب السيئات.
يقول ابن رجب رحمه الله: اتفق السلف على أن الذي على اليسار هو الذي يكتب السيئات، والذي عن اليمين يكتب الحسنات، ولكن ليس في هذا نص، ولكن إذا اتفقوا على ذلك فلا بد أن يكون حقاً؛ لأن الأمة لا تتفق إلا على حق كما في هذا الحديث.
فإذاً المحو الذي يذكر يكون في الصحائف، هذا قول.
القول الثاني: أن المحو يكون في الشرائع التي ينسخها الله جل وعلا، يقول ابن أبي العز في شرحه للطحاوية: إن هذا القول هو الراجح، وهو الصحيح، وهو الذي تدل عليه الآيات وسياقها، وهو أن الإثبات والمحو في الشرائع التي يشرع الله ما يشاء منها، وينسخ ما يشاء، فلا يوجد فيه إشكال حيث إنه ليس من أمور القدر.
أما قوله جل وعلا: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [فاطر:١١] فقد قالوا: المعنى: ما يعمر من معمر ولا ينقص من عمر معمر آخر -غير هذا المعمر- إلا في كتاب، وليس معنى ذلك أن الأعمار يزاد فيها وينقص منها، فهذا مثل قولك: عندي دينار ونصفه، فالنصف الذي أعدت الضمير فيه على الدينار نصف آخر، غير نصف الدينار الأول؛ لأن عندك ديناراً كاملاً ونصفه، يعني: نصف دينار آخر؛ فيكون هذا معناه: ما يزاد عمر معمر، وينقص من عمر معمر آخر إلا في كتاب، يعني: هذا مكتوب ومفروغ منه فلا يكون فيه زيادة ونقص، ويدل على هذا ما في صحيح مسلم عن أم حبيبة أنها قالت: (اللهم متعني بزوجي رسول الله وبأخي معاوية وبأبي أبي سفيان، فقال: لقد سألت الله لآجال مضروبة لا يزاد فيها ولا ينقص، ولو قلت: اللهم اغفر لي وارحمني لكان أنفع) والله جل وعلا يقول: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:٣٤] {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} [المنافقون:١١] الأجل لا يؤخر ولا يقدم فالآجال مفروغ منها، وهذا هو الصحيح الذي تدل عليه النصوص، وبذلك تتفق النصوص، وليس فيها أي اعتراض مخالف، ولكن يجب أن يفهم مراد الرسول صلى الله عليه وسلم، فقوله: (إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد) يعني: أنه جل وعلا قضى أن بأس هذه الأمة يكون بينها، وأنه إذا وقع فيهم السيف فإنه لا يرفع إلى يوم القيامة، وقد وقع السيف بقتل الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه، فبقي في الأمة وسيستمر إلى يوم القيامة، فالقتال موجود في الأمة من ذلك اليوم إلى يوم القيامة كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا من القضاء الذي لا يرد، ولكنه قد يقل وقد يكثر، وقد يكون في جهة دون أخرى، والذي يقرأ التاريخ يعلم ذلك يقيناً كيف يعني هذا، وسيكثر أيضاً ويزيد في آخر الزمان، حتى يأتي زمان يقتل فيه الإنسان وما يدري على أي شيء يقتل؛ لكثرة الفتن والأهواء.