للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تقديم أدلة الكتاب والسنة على أدلة النظر والاجتهاد]

قال الشارح: [والأدلة على هذا الأصل في كتاب الله أكثر من أن تحصر، وفي السنة كذلك كما أخرج أبو داود بسنده عن أناس من أصحاب معاذ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يبعث معاذاً إلى اليمن قال: (كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله تعالى، قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في كتاب الله؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو، قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره، وقال الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله)].

الحديث ضعيف ولا يجوز الاعتماد عليه، بل حكم بعض العلماء بأنه موضوع، ولكن العلماء الذين تكلموا في الأصول قالوا: شهرته تغني عن سنده، فقد علم أن معناه صحيح وقبله العلماء وقالوا به، يعني: بمعناه، فلا التفات إلى سنده وإنما الالتفات إلى المعنى، والمعنى دلت عليه النصوص الأخرى وقد جاء في سنن ابن ماجة أيضاً عكس هذا تماماً، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا عرض لك قضاءٌ فلا تقض برأيك حتى تعرف الدليل أو ترفع ذلك إلي)، وهذا عكس هذا، ولكن هذا أيضاً ضعيف؛ لأن في سنده محمد بن سعيد المصلوب قيل: إنه أحد الكذابين الذين عرفوا بوضع الحديث، وإن قال ابن القيم رحمه الله: هذا أحسن سنداً من الأول، أي: هذا الذي رواه ابن ماجه أحسن سنداً من الأول وأجود سنداً من الأول، ولكن الأول دلت عليه قواعد ونصوص فأغنت كما يقول علماء الأصول؛ لأن هذا يذكر في كتب الأصول، وقبول العلماء له وأخذهم به واتفقاهم على الأخذ به يغني عن البحث في سنده، والاستناد على قواعد الشرع يغني عن إسناده وإن كان إسناده واهياً، فلا اعتماد على السند وإنما الاعتماد على المعنى وعلى القواعد.

قال الشارح: [وساق بسنده عن الحارث بن عمر عن أناس من أصحاب معاذ بن جبل رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن) بمعناه.

والأئمة رحمهم الله لم يقصروا في البيان، بل نهوا عن تقليدهم إذا استبانت السنة، لعلمهم أن من العلم شيئاً لم يعلموه وقد يبلغ غيرهم، وذلك كثير كما لا يخفى على من نظر في أقوال العلماء.

قال أبو حنيفة رحمه الله: (إذا جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن الصحابة رضي الله عنهم فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن التابعين فنحن رجال وهم رجال)].

معنى ذلك: أنه إذا صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يجوز أن يعارض ولا يجوز أن يخالف ويجب أن يؤخذ به ويعمل به، وكذلك إذا جاءت أقوال الصحابة نأخذ بها ولا نعارضها بآرائنا وأفكارنا، بل نقبلها ونسلم لها؛ لأنهم اهتدوا بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وشاهدوا نزول الوحي، وهم أهل اللسان الذين تعلموا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلقوا عنه، أما إذا جاء عن التابعين الذين بعد الصحابة فيقول: (هم رجال ونحن رجال) يعني: هذا اجتهاد ونحن نجتهد مثلهم.

فمعنى ذلك: أنه لا يأخذ أقوال التابعين ونحوهم إذا عارضها دليل من كتاب الله وسنة رسوله، هذا معناه.

قال الشارح: [وقال: (إذا قلت قولاً وكتاب الله يخالفه فاتركوا قولي لكتاب الله، قيل: إذا كان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم يخالفه؟ قال: اتركوا قولي لخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، قيل: إذا كان قول الصحابة يخالفه؟ قال اتركوا قولي لقول الصحابة).

وقال الربيع: سمعت الشافعي رحمه الله يقول: (إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوا ما قلت).

وقال: (إذا صح الحديث بما يخالف قولي فاضربوا بقولي الحائط).

وقال مالك: (كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم).

وتقدم له مثل ذلك، فلا عذر لمقلد بعد هذا، ولو استقصينا كلام العلماء في هذا لخرج عما قصدناه من الاختصار، وفيما ذكرناه كفاية لطالب الهدى].