[سبيل النجاة من الشرك الأكبر]
قال رحمه الله: [وما نُجِّي من شَرَك هذا الشرك الأكبر إلَّا من جرد توحيده لله، وعادى المشركين في الله، وتقرب بمقتهم إلى الله، واتخذ اللهَ وحده وليه وإلهه ومعبوده].
وهذا واجب، وهو من مقتضى الإيمان: كونه يبغض المشرك ويمقته، وبغضُه ومقتُه لأجل الله جلَّ وعلا؛ لأن الله يبغض ذلك المشرك ويمقته، فهو يحب ما يحبه الله ويكره ما يكرهه الله، فالله جلَّ وعلا يأمره بهذا ويتبع ذلك ويتقرب بذلك إلى الله، ولهذا يقول جلَّ وعلا: {لا تَجِدُ قَوْمَاً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:٢٢] يعني: ولو كان أقرب قريب إليك ووقع في شيء من ذلك فإنه فرض عليك أن تبغضه وتمقته وتتقرب إلى الله جلَّ وعلا ببغضه، والإيمان ينتفي إذا لم يحصل ذلك، قال الله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمَاً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ} [المجادلة:٢٢] ويقول جلَّ وعلا: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدَاً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:٤] وهذا كثير في القرآن، يبين الله جلَّ وعلا أن هذا مقتضى الإيمان، وأن الذي لا يحصل ذلك منه، فإيمانه غير صحيح، فالله قطع الصلة بين المؤمن وبين المشرك والكافر، فالصلة مقطوعة نهائياً، وإنما الرابطة بين المؤمن وبين أخيه المؤمن ولو لم يكن بينه وبينه نسب، فالمؤمنون إخوة يتوادُّون فيما بينهم ويتعاونون على البر والتقوى.
أما إذا كان أخوك مشركاً أو كافراً فإنه يجب عليك أن تقطع الصلة بينك وبينه، وأن تجعل بدل الصلة العداوة والبغضاء.
قال رحمه الله: [فجرَّد حبَّه لله، وخوفَه لله، ورجاءَه لله، وذلَّه لله، وتوكلَه على الله، واستعانتَه بالله، والتجاءَه إلى الله، واستغاثتَه بالله، وقصدَه لله، متبعاً لأمره، متطلباً لمرضاته، إذا سأل سأل الله، وإذا استعان استعان بالله، وإذا عمل عمل لله، فهو لله وبالله ومع الله.
انتهى كلامه رحمة الله عليه.
وهذا الذي ذكره هذا الإمام في معنى هذه الآية هو حقيقة دين الإسلام، كما قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينَاً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفَاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَاً} [النساء:١٢٥].
قال المصنف رحمه الله تعالى: قال أبو العباس: نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون، فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط منه، أو يكون عوناً لله.
ولم يبق إلَّا الشفاعة فبين أنها لا تنفع إلَّا لمن أذن له الرب، كما قال: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:٢٨] فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة، كما نفاها القرآن، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (يأتي فيسجد لربه ويحمده، لا يبدأ بالشفاعة أولاً، ثم يُقال له: ارفع رأسك، وقل يُسمع، وسل تُعطَ، واشفع تشفَّع).
وقال أبو هريرة له صلى الله عليه وسلم: (من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: من قال: (لا إله إلَّا الله) خالصاً من قلبه) فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله، ولا تكون لمن أشرك بالله، وحقيقته: أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص، فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع؛ ليكرمه وينال المقام المحمود.
فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك، ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تكون إلَّا لأهل التوحيد والإخلاص.
انتهى كلامه].
أبو العباس هي كنية شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهذا الكلام في معنى الآية السابقة: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:٢٢ - ٢٣] فهو يقول: إن الله جلَّ وعلا نفى أن يكون أحد من الخلق يملك شيئاً من دونه، ونفى أن يكون له اشتراك في هذا الملك، ونفى أن يكون أحد من الخلق مساعداً أو معاوناً لله تعالى وتقدس، ونفى أن تقع الشفاعة لأحد من الخلق إلَّا إذا أذن له.
وهذه الشفاعة التي نفاها هي: ما يزعم المشركون أنها تقع لمن طلبوا منه الشفاعة استقلالاً، فأخبر جلَّ وعلا أن هذا شرك، وأنه يمنع حصول الشفاعة، بل يمنع ألَّا يُعذَّبوا، فهم من المعذَّبين؛ لأنهم مشركون، ثم بين أن الشفاعة لله، كما جاء في الأحاديث التي أخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لا يطلب الشفاعة استقلالاً، وإنما أول ما يفعل: أنه يسجد لربه جلَّ وعلا ويحمده ويثني عليه، وأنه لا يرفع رأسه حتى يأمره جلَّ وعلا بذلك، ولا يشفع حتى يقول له جلَّ وعلا: (اشفع) فعند ذلك يشفع.
وقوله: (فحقيقتها) يعني: حقيقة الشفاعة هي رحمة الله جلَّ وعلا للمشفوع، وإظهار كرامة الشافع، يعني: أمرُه بالشفاعة وقبول شفاعته ليظهر كرامته، فإذاً: هي رحمة من الله للشافع وللمشفوع له، والأمر كله بيد الله.