[ما جاء في ذم الرياء والتحذير منه]
قال المصنف رحمه الله: [باب ما جاء في الرياء.
وقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:١١٠]].
الرياء: مأخوذ من الرؤية، والأصل في هذا أن الإنسان يعمل لنفسه، وكأنه يعبد نفسه، فيعمل العمل الذي يمدح به ويثنى عليه به بين الناس، يريد أن يرى مكانه ويتبوأ في قلوب الناس مكاناً عظيماً، فالأصل فيه أن عمله لنفسه، فكأنه عبد نفسه، وهذا من الشرك، فإذا كان قصده من العمل الذي فعله ليمدح ويثنى عليه ويقال: إنه عابد، أو إنه جواد، أو إنه عالم أو إنه متكلم، أو ما أشبه ذلك؛ فهو مشرك لا يشك فيه، وهو ممقوت عند الله، وصاحبه مستحق لعقابه جل وعلا، فضلاً عن أن يقال: إن عمله يمكن أن يقبل أو إنه لا يعاقب عليه.
فإن كان العمل من الأشياء التي تسمع كالذكر والقراءة وما أشبه ذلك، فهذا يسمى سمعة، فالسمعة أن الإنسان يتحدث عند الناس بأنه عمل كذا وعمل كذا في عمل قد خفي على الناس؛ فيظهره لهم لأجل أن يمدحوه ويثنوا عليه، أو يتبوأ عندهم مقاماً مرموقاً، فهذا رياء إلا أن مصدره سماع القول، سواء صدر منه أو أذاعه ونشره ليذكر به.
وهذا يختلف الناس فيه: فمنهم من يكون رياؤه شركاً أكبر! ومنهم من يكون رياؤه محبطاً للعمل الذي يقارنه، ومستحقاً عقاب الله عليه، وهو من الشرك، ولكنه لا يكون من الشرك الأكبر، ومنهم من يطرأ عليه ذلك في أثناء العمل، ثم يدفعه ويصلح نيته، ويجعلها خالصة لله جل وعلا، ويطرد ما يقع في نفسه من ذلك، ويعرض عنه، ويستحضر عظمة الله، وأن الناس لا ينفعونه، فمثل هذا لا يضره ذلك، وإن كان هذا ليس كالعمل الذي يكون خالصاً لله جل وعلا من أصله.
والناس يتفاوتون عند الله جل وعلا في الإخلاص، ومن هذا الباب أن يعمل الإنسان لأجل الدنيا، وسيأتي في الباب الذي بعد هذا أنه يجب أن يكون عمله الصالح الذي عمله لأجل تحصيل الجنة، أو لأن الله أمر به؛ أما إن عمله من أجل الدنيا فهذا نوع من الشرك كما سيأتي في الباب الذي بعد هذا، ولكن في هذا الباب ذكر مجرد المراءاة، والسبب في هذا أن الإنسان يحب أن يكون فوق غيره، ولا يريد أن يكون أحد من الناس متقدماً عليه في الفضل، ويريد أن يتقدم هو من عدة نواح.
فهذا من حظوظ النفس العاجلة، وهذا يدخل في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:٢٣] يعني: أنه يهوى هذه الأشياء ويحبها، ويريد أن يحظى بها في الدنيا، وفي الواقع أن هذا يحصل من الإنسان الذي نظره قصير، وعقله ضعيف، وإيمانه قليل، ومراقبته لربه جل وعلا ليست تامة، بل غائبة عنه.
والعلاج أن يعلم أنه عبد لله جل وعلا يجب أن يخلص عمله لربه، وأنه إذا لم يكن عمله خالصاً فإن الله غني عنه، وهو يتركه كما سيأتي.
ومع ذلك الترك فإنه يعاقبه ويعذبه، وعذاب الله جل وعلا لا يشبه عذاب الناس، ولا يقابله منفعة يتمتع بها في الدنيا، المنافع هذه بعضها خيال قد يصل إليه شيء، وقد لا يصل إليه شيء، وسنة الله جل وعلا في خلقه أن المرائي تنعكس عليه أموره، ويتبين للناس من خلال سيرته وعمله أنه مراء، ثم يمقت على هذا، وتصبح مراداته معكوسة، أراد أن يحب ويمدح ويثنى عليه لكنه يبغض ويكره ويمقت، وإن لم يصرح للناس بذلك؛ لأن الأمور لا تخفى على الذي له عقل ومعرفة بأحوال الناس، يعرف ذلك من خلال أعمالهم وأقوالهم مع أن المرائي يكون ليناً في مقالته مع الناس؛ ليصرف وجوههم إليه، ويكون ألين ممن يريد وجه الله ولا يبالي بمدح أو ذم، بل كونه لا يمدح أحب إليه من أن يمدح ويثنى عليه؛ لأنه لا يقصد بهذا العمل إلا وجه الله.
والإخلاص لابد منه في صحة العمل، فكل عمل يعمله الإنسان إن لم يكن خالصاً فهو مردود عليه.
ومعروف أن الإنسان كلف بأمر الله جل وعلا امتثالاً، وبنهي الله جل وعلا اجتناباً، والأمر لا يكون إلا عن طريق الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك النهي لابد أن يأتي عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو الذي جاء به؛ لأنه أمر الله، وأمر الله يأتي بالوحي، والوحي لا ينزل إلا على رسول، فالله يرسل الرسول خاصة للأمم، وآخر الرسل صار عاماً للناس كلهم، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، فلابد أن يبين ذلك ويوضحه.
ثم العمل الذي يعمله الإنسان، والاجتناب الذي يجتنبه، يجب أن يكون من أجل الله جل وعلا فقط، خوفاً منه، ورجاءً لثوابه فقط، ولا يكون لأمر آخر من أمور الناس والدنيا، فإن دخله شيء من المنافع سواء كانت معنوية كالمدح والمحبة والثناء وما أشبه ذلك أو حسية كأن يتوصل بهذا العمل إذا أظهره إلى نفع من منافع الدنيا -وظيفة أو غير ذلك- فإن عمله يكون حابطاً، ويكون عابداً لنفسه في الحقيقة مع ربه، أو عابداً للدنيا مع ربه، وهذا أمر خطير جداً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم خافه على صحابته وقال: إنه يخافه عليهم أكثر من خوفه عليهم من المسيح الدجال كما سيأتي.
والسبب في هذا أن الدافع والداعي له أمر موجود في النفوس، وهو كامن في النفس، وكل نفس موجود فيها هذا الشيء، فإذا لم تهذب النفس بخوف الله ومراقبته فلابد من وقوعها في ذلك.
إذاً: الرياء يخاف منه على الصالحين فكيف بمن ليس منهم؟ فالخوف عليهم أشد.
والشأن في الإخلاص عظيم، وإن كان العمل الخالص قليلاً فهو في الواقع كثير، أما إذا كان العمل كثيراً وهو غير خالص فهو في الواقع قليل، وقد يحبط ويكون وبالاً على صاحبه كما سيأتي تفسير ذلك في النصوص.
واسم هذا الكتاب الذي وضعه المؤلف: (كتاب التوحيد)، والتوحيد هو: أن يكون العمل لله وحده فقط، لا يكون لغيره، فإن دخله شيء من مقاصد الناس لم يكن توحيداً، وصار موزعاً بين الرب جل وعلا وبين المقاصد الأخرى، وهذا هو الشرك؛ لأنه لا يوجد في بني آدم من يعبد الصنم فقط، وإنما يعبد الصنم ويعبد الله، كل الذين يعبدون غير الله يشركون، أما أن يوجد قوم لا يعبدون إلا الصنم فهذا لا وجود له؛ لظهور الأدلة الواضحة في وجوب عبادة الله جل وعلا، ولو من جهة الربوبية، وهذا أمر الإنسان مضطر إليه، فإذا خلص الإنسان من هذه البلية فهو من المخلصين الذين خلصهم الله جل وعلا من بين الخلق.
والأمور تختلف في هذا، فهناك أعمال يكون الإخلاص فيها سهلاً كالصوم مثلاً، وهناك أعمال الإخلاص فيها عزيزٌ جداً، ولا يوجد إلا عند من كان إيمانه قوياً كالصدقة الظاهرة، وغيرها من الأعمال الظاهرة التي تكون أمام مرأى الناس ومسمعهم، فإن هذه تحتاج إلى مجاهدة، وتحتاج إلى أن تتجدد النية، وكلما عرض له شيء يجدد نيته من جديد، فيجعلها خالصة لله، وإلا قد لا يسلم له شيء؛ لأن العمل الذي يخالطه الرياء يكون حابطاً.