للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حكم من طلب الرقية من غيره]

كون الإنسان يرقي نفسه أفضل وأحسن، وهذا لا خلاف فيه؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يرقي نفسه، ويرقي أهله.

أما طلبها من شخص آخر فإن فيه نقصاً، ومن فعل ذلك فإنه لا يكون من السابقين إلى الجنة الذين يدخلونها بغير حساب؛ لما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في حديث ابن عباس المشهور الذي في الصحيحين، وهو عن حصين بن عبد الرحمن قال: كنا جلوساً عند سعيد بن جبير فقال: (أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ فقلت: أنا، ثم قلت: إني لم أكن في صلاة ولكني لدغت، قال: فما صنعت؟ -هنا سعيد الذي هو شيخ حصين يقوله لـ حصين بن عبد الرحمن - قال: فقلت: ارتقيت، قال: ما حملك على ذلك؟) والسلف رضوان الله عليهم ما يفعل أحد منهم شيئاً إلا بدليل، ولا يتركون عملاً يعمل به إلا ويسألون عن مستنده؛ ولهذا قال: (ما حملك على هذا؟ -أي ما الذي حملك على أن ارتقيت؟ - فقال: حديث حدثناه الشعبي، قال: وما حدثكم؟ قال: حدثنا عن بريدة أنه قال: لا رقية إلا من عين أو حمة، عند ذلك قال سعيد رحمه الله: قد أحسن من انتهى إلى ما قد سمع) يعني: أن الذي يأخذ بالدليل هذا فهو عمل جيد وحسن ولكن -استدراكية يعني: أن هناك شيئاً غير هذا- حدثنا ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهط، ورأيت النبي ومعه الرجل والرجلان، ورأيت النبي وليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه، ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت إليهم وقد سدوا الأفق، ثم قيل لي: انظر إلى الأفق الآخر، فنظرت فإذا سواد عظيم -يعني: من الناس- فقيل لي: هذه أمتك، ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب)، ثم نهض صلوات الله وسلامه عليه من مجلسه ودخل بيته، وقعد الصحابة يتساءلون عن السبعين الألف؟ لأن الصحابة رضوان الله عليهم من أحرص الناس على الخير، إذا سمعوا شيئاً من الفضائل بحثوا عنها حتى يعملوها، فهم أفضل الناس بعد الأنبياء، وخير الخلق رضوان الله عليهم، ولهذا اختارهم الله جل وعلا لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، وتربوا على يديه، وتلقوا الإيمان منه، وشاهدوا نزول الوحي وعرفوه، فلا يمكن أن يكون هناك أحد مثلهم في الخلق، والله جل وعلا زكاهم في كتابه وأثنى عليهم، فالذي يطعن فيهم أو يقدح فيهم مكذب لله جل وعلا، وهو ضال مضل، (فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ لأنهم عرفوا أن صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم ليسوا كغيرهم، اختارهم الله لذلك، فهم أفضل الأمة على الإطلاق، وهذا أمر متفق عليه بين أهل العلم الذين لهم معرفة بالوحي خلافاً لأهل الأهواء، فإنه لا عبرة بأقوالهم، وقال قوم: (لعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئاً، وذكروا أشياء، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه: من هم؟) يريدون بسؤالهم هذا حتى يعملوا مثل عملهم فيسبقون إلى الجنة، فقال عليه الصلاة والسلام: (هم الذين لا يتطيرون، ولا يسترقون، ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون)، فقوله: (لا يسترقون) يعني: لا يطلبون من أحد أن يرقيهم.

يقول العلماء: السبب في هذا أن الطلب والسؤال من الناس فيه افتقار القلب والتفاته إلى غير الله، وهذا نوع من الفقر للمخلوق، والمؤمن يجب أن يكون فقره كله إلى الله وحده، أما الخلق فيكون غنياً عنهم جميعاً، ويكون مثلهم مساوياً لهم لا يطلب منهم شيئاً؛ لأن طلب الشيء من الخلق يكون نقصاً في الدين، ويمنع ذلك من السبق إلى الجنة ولو كان طلب الرقية والراقي لا يضره ذلك؛ لأنه سؤال منه، ولهذا كان الرسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع أصحابه في آخر الأمر على ألا يسألوا الناس شيئاً، فكان أحدهم يسقط سوطه وهو راكب على راحلته والناس تحته عند راحلته ولا يقول لواحد منهم: ناولني السوط، بل ينزل عن راحلته ويأخذه بنفسه؛ وفاءً بالبيعة التي بايعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي: ألا يسأل الناس شيئاً.

فمسألة الناس فيها الافتقار، وفيها التفات القلب إلى غير الله، وقد يكون ذلك نوعاً من الشرك الذي يقدح في التوحيد؛ ولهذا السبب حرمت المسألة، كما في صحيح مسلم من حديث قبيصة بن المخارق لما جاء يسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل أصيب بفاقة حتى يقوم ثلاثة من قومه من ذوي الحجا -يعني: العقل- يشهدون أنه أصيب بفاقة -والفاقة: هي الحاجة الشديدة والفقر- فتحل له المسألة حتى يجد قواماً من عيش أو سداداً من عيش.

ورجل أصيب بجائحة اجتاحت ماله -إما حريق أو سيل احتمل ماله، أو ظالم استولى على ماله أو ما أشبه ذلك فأصبح ليس بيده شيء- فتحل له المسألة حتى يجد قواماً من عيش أو سداداً من عيش.

ورجل تحمل حمالة) أي: أنه تحمل ذلك في سبيل الإصلاح، كأن يكون بين شخصين أو جماعتين شجار وقتال فيتحمل مالاً يدفعه لهؤلاء وهؤلاء حتى يصلح بينهم، فمثل هذا يجوز له أن يسأل؛ لأن هذا المال يدفع لإصلاح ذات البين، فلو ترك هذا الأمر من ماله لأوشك أن يحجم الناس عن الإصلاح، فصار من محاسن الشرع أنه أباح للأغنياء المسألة لهذا الغرض فقط؛ لأنه ليس لأنفسهم بل لتسديد هذه الأموال التي تحملوها لأجل الإصلاح، قال: (وما عدا ذلك فالمسألة سحت) أو كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، والسحت: هو الحرام.

وجاء في الحديث: (سائل الناس يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم) عظام فقط، ولهذا جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (المسألة خدوش أو كدوش في وجه صاحبها) يعني: أنها تأكل لحمه وتذهب به ويأتي يوم القيامة وليس في وجهه لحم، هذا هو المعنى الذي منع المسترقي من السبق إلى الجنة من أجله.

قوله: (الذين لا يكتوون ولا يتطيرون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون).

فالإنسان ينبغي له أن يرقي نفسه، إلا إذا عرض عليه أخوه أن يرقيه فلا بأس بذلك، أما أن يطلب منه ويأتي إليه ويقول: ارقني فلا ينبغي ذلك؛ لئلا يكون من الممنوعين من السبق إلى الجنة كما في هذا الحديث.

أما إذا عرض عليه فلا بأس أن يقبل؛ لأن هذا ليس فيه طلب وليس فيه مسألة بل عرض عليه عرضاً.

وقد جاء (أن جبريل عليه السلام جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو مريض فقال: ألا أرقيك؟ فرقاه).

وكذلك ثبت أن السلف كانوا إذا عرضت عليهم الرقية قبلوا ذلك، ولا يدخل هذا في المنع من السبق إلى الجنة، هذا إذا كان الإنسان عنده همة عالية يريد أن يكون من السبعين الألف، أما إذا كان لا يهتم بمثل هذه الأشياء فهذا أمر آخر.