للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أقدار الله جل وعلا تقع بمشيئته وحكمته]

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقول الله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التغابن:١١]].

قوله: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:١١]، قبلها أول الآية: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} [التغابن:١١] يعني: بأمره ومشيئته، كل مصيبة تقع فقد شاءها الله جل وعلا وقدرها وكتبها، فمن آمن بأنها من عند الله وبقدره ثم صبر وسلم، ولم يعترض على المقدور، بل رضي بفعل ربه وقال: أنا عبد لله جل وعلا وإنا لله وإنا إليه راجعون، فإنه يهدي قبله، يعوضه هداية القلب، وهداية القلب بأن يجعل قلبه يحب الخير ويطلبه ويكره الشر ويبغضه ويبتعد عنه، فيزداد إيماناً مع إيمانه وعملاً صالحاً يكتسب به رضا ربه جل وعلا.

ومعنى ذلك: أن الإيمان هنا ذكر بفضل العمل: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} [التغابن:١١]، و (من مصيبة) هنا نكرة تعم أي مصيبة: (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ)، يؤمن أن هذه المصيبة من عند الله تقديراً ومشيئةً وإرادةً، وأنه لابد منها، (يهدِ قلبه) فسر ذلك بالرضا والصبر، والرضا والصبر عمل، فدخل العمل في الإيمان، وهذا أمر واضح، ولهذا فإن هذه الآية من أظهر ما استدل به العلماء على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، كما هو مذهب أهل السنة، والآيات والأحاديث في هذا كثيرة.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأول الآية: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} [التغابن:١١] قال ابن عباس بأمر الله.

يعني: عن قدره ومشيئته، أي: بمشيئته وإرادته وحكمته، كما قال في الآية الأخرى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:٢٢]].

هذه الآية: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:٢٢] أي: أن هذا شيء مكتوب ومفروغ منه، والضمير هنا في (نبرأها) يعود على النفس المصابة، أي: قبل أن تخلق وتوجد كتب عليها ذلك، ولابد من وقوعه، فإذا علم الإنسان ذلك يتسلى به ويصبر ويحتسب.

ومعلوم أن الله جل وعلا علام الغيوب، وفي الحديث الصحيح: (أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة)، وهذا قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، كما في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كتب الله مقادير الأشياء قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء)، فكل شيء يقع صغيراً أو كبيراً حتى سقوط القلم من يد الإنسان، بل حركة أصابعه، بل حركة عروقه ونبضها مكتوب ومقدر، فكل شيء مكتوب قبل وجوده، وكل شيء فإنه مكتوب ومفروغ منه، والإيمان بهذا من أركان الإيمان التي لا يصح إيمان الإنسان إلا بها، ولابد منه.

ثم يضاف إلى هذا أن الإنسان يجب أن يؤمن بأن الله هو الخالق وحده، وليس معه متصرف لا العبد ولا غيره، فهو الذي يصرف العبد، ويقدر عليه ما يشاء، وهو الذي كل كائنة تقع في الكون فبإذنه وأمره، ويضاف إلى هذا أيضاً أنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، لابد أن يعلم هذا، ويضاف إلى هذا أيضاً: أن العبد عبدٌ لله، يجب أن يكون ممتثلاً، وأنه تجب عليه أحكامه وأقداره، وليس خارجاً عن ذلك، إما أن يكون عبداً طوعاً أو يكون عبداً قهراً، حتى وإن تمرد وأبى فلا يخرجه ذلك عن كونه عبداً، كما قال جل وعلا: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} [مريم:٩٣]، يعني: ذليلاً خاضعاً مقهوراً ليس له من نفسه تصرف، فإذا عرف هذا واستسلم وانقاد طائعاً صار عبداً حقيقة؛ لأن العبد ينقسم إلى قسمين: عبد بمعنى عابد أي: صدرت منه العبودية، وهذا هو الذي ينفع ويفيد، وعبد بمعنى معبّد مقهور مذلل مسخر، وهذا على الخلق كلهم الكافر والمؤمن والبر والفاجر، فيختار الإنسان أحدهما: إما أن يكون ممن تجري عليه الأقدار وهو مأزور ومقهور، أو ممن تجري عليه الأقدار وهو مأجور ويكون مطيعاً عبداً لله جل وعلا.