للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أهل الكلام أهل نزاع وخصام]

المتكلمون هم الذين صار دينهم الكلام، وكثرت المجادلات فيما بينهم، كل يجادل الآخر في أمور يدعونها، وكل يدعي أن العقل معه؛ فلهذا كثر بينهم الكلام والنزاع والخصام فسموا أهل الكلام، بخلاف أهل الوحي الذين يعتصمون بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإنهم لا اختلاف بينهم، ولا يجوز شرعاً أن يقع بينهم اختلاف؛ لأن الله نهاهم عن ذلك، والشرع يمنع أن يقع الخلاف بينهم، لأن الله جل وعلا يقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:١٠٣].

ومن الشيء المسلم به في العقائد وغيرها أن أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم يسمون أهل السنة والجماعة، فالجماعة وصف لهم؛ لأن الاجتماع ملازم لهم، فيجب أن يجتمعوا ولا يتفرقوا، أما هؤلاء فهم أهل كلام وأهل تنافر وأهل خصام، تأتي فرقة جديدة ثم لا يمضي عليها وقت إلا وقد افترقت إلى فرق متعددة، بسبب ما يسمونه عقليات، ولا سيما إذا كانت الأمور في صفات الله جل وعلا، ومبدؤهم أنهم يقولون: الذي دلنا على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم هو العقل، يعني: عرفنا صدقه بالعقل، فعندهم أن العقل هو الأصل الذي دل على صدق الرسول، ولا يكون محكوماً عليه، بل لا بد أن يكون هو الحاكم، لأننا نرجع إليه، فمبدأ قولهم من هنا.

ثم صاروا يبنون على هذا من باب القياس العقلي، والقياسات وإن لم تكن بارزة متلفظاً بها فهي كامنة في الأنفس، فلهذا نفوا صفات الله جل وعلا على هذا القياس، مثال ذلك: أنهم قالوا: لو وصفنا الله جل وعلا بأنه يتكلم للزم من ذلك أن يكون له فم، وله لسان، وله شفتان، وله لهوات، وله حبال صوتية إلخ.

ما معنى هذا؟ معنى هذا أنهم ما عرفوا من الكلام إلا ما عرفوه من أنفسهم، فصار التشبيه عندهم مستكناً أولاً، ثم صاروا ينفون هذا التشبيه المستكن في أنفسهم، فقالوا: إن الله لا يتكلم لئلا يلزم التشبيه الذي كان في أنفسهم، والله جل وعلا يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:١١]، فلما قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:١١] صار هذا نفياً عاماً مطلقاً يدل على عدم وجود شيء من الأشياء تماثله.

ثم أخبرنا جل وعلا أن هذا النفي العام المطلق لا يدعوكم إلى أن تنفوا عن الله جل وعلا صفاته التي اتصف بها فقال: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:١١]، فنص على السمع والبصر؛ لأن السمع والبصر يوصف بهما المخلوق، فكون المخلوق يوصف بأشياء لا يمنع أن الله جل وعلا يوصف بها، ولكن صفات المخلوق خاصة به لا يشاركه الله جل وعلا فيها، وصفات الله جل وعلا خاصة به لا يشاركه المخلوق فيها، تعالى الله وتقدس، ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله.