للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[المنفق سلعته بالأيمان الكاذبة]

قال الشارح رحمه الله: [قوله: (أشيمط زان) صغره تحقيراً له؛ وذلك لأن داعي المعصية ضعيف في حقه، فدل على أن الحامل له على الزنا هو محبة المعصية والفجور، وعدم خوفه من الله، وضعف الداعي إلى المعصية مع فعلها يوجب تغليظ العقوبة عليه، بخلاف الشاب، فإن قوة داعي الشهوة منه قد يغلبه مع خوفه من الله، وقد يرجع على نفسه بالندم ولومها على المعصية، فينتهي ويراجع.

وكذا العائل المستكبر ليس له ما يدعوه إلى الكبر؛ لأن الداعي إلى الكبر في الغالب كثرة المال والنعم والرياسة، والعائل الفقير لا داعي له إلى أن يستكبر، فاستكباره مع عدم الداعي إليه يدل على أن الكبر طبيعة له، كامن في قلبه، فعظمت عقوبته، لعدم الداعي إلى هذا الخلق الذميم الذي هو من أكبر المعاصي.

قوله: (ورجل جعل الله بضاعته) بنصب الاسم الشريف، أي: الحلف به، جعله بضاعته، لملازمته له وغلبته عليه، وهذه أعمال تدل على أن صاحبها إن كان موحداً فتوحيده ضعيف، وأعماله ضعيفة، بحسب ما قام بقلبه، وظهر على لسانه وعمله من تلك المعاصي العظيمة على قلة الداعي إليها، نسأل الله السلامة والعافية، ونعوذ بالله من كل عمل لا يحبه ربنا ولا يرضاه].

وهذا محل الشاهد من الحديث في هذا الباب، وهو الذي جعل الله بضاعته، لا يشتري ولا يبيع إلا بالحلف رغبة في تحصيل الربح الدنيوي، وعدم تعظيم الله جل وعلا وتقديره، وقد أمرنا الله جل وعلا بحفظ أيماننا فقال: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة:٨٩] وتقدم أن معنى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} إما أن يكون: لا تحلفوا، أو يكون المعنى: لا تتركوها بلا تكفير إذا حلفتم بالله، ولكن المؤلف أراد المعنى الأول: لا تحلفوا؛ لأن كثير الحلف لابد أن يقع في المخالفة.

ومعلوم أن الحلف المقصود به أن يؤكد الخبر بذكر المعظم الذي إذا ذكر عند الخبر يقدر على عقاب هذا الحالف إذا كان كاذباً، هذا هو القصد من الحلف، فإذا حلف الإنسان فالمعنى أنه يقول: أنا أحلف بالله وهو القادر على عقابي إن كنت كاذباً.

ولهذا السبب منع شرعاً الحلف بغير الله جل وعلا، وصار الحلف بغير الله شركاً؛ لأنه لا يوجد أحد من الخلق يقدر على معرفة ما في ضمير هذا الإنسان، ومعرفة مخالفته، ويقدر على عقابه أو إثابته، فإذا كان صادقاً يثاب، وإذا كان مخالفاً يعاقب، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك).

ومعلوم أن الكفر أعم من الشرك، وأن الشرك أخص من الكفر؛ ولهذا قال: (فقد كفر أو أشرك) فلهذا يتعين على العبد الذي يهتم بنفسه أن يجتنب كثرة الحلف، وإذا حلف على أمر من الأمور يريد المنع من فعل هذا الشيء أو يريد الحض على فعله، هذا في غير البيع والشراء، أما البيع والشراء فقد جاء هذا الحديث خاصاً بهما، فلا ينبغي أن يكون الحلف في البيع والشراء.

والبائع يجب أن يكون صادقاً فيما يقول، ويجب أن يكون مبيناً لسلعته إن كان فيها عيب، وإذا سئل صدق، ويبتعد عن الحلف، ورزقه الذي أراده الله له سوف يأتيه حلف أو لم يحلف، ولكن بعض الناس لسوء فعله وسلوكه يكون رزقه عن طريق محرم، وعن طريق سيئ؛ لأنه لم يتبع ما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم.

وغالباً أن الذي يحلف عند البيع والشراء يكون كاذباً، ولا يلزم أن يكون الحالف كاذباً على الإطلاق، فإنه يوجد من يحلف وهو صادق ولكنه مخطئ في حلفه؛ لأن هذا ليس موضع الحلف، فالحلف له مواضع، وهذا الذي يحلف على البيع والشراء يدل على شدة رغبته في الكسب، وفي تحصيل الرزق، والمسلم يجب عليه أن يرغب في الآخرة أكثر من رغبته في الدنيا، أما الدنيا فهي تبع، إن جاءت بالطريق الشرعي وإلا فلا يطلبها عن طريق محرم، وهذا مسلك المسلم الذي يجب أن يسلكه.

المقصود: أن الذي يحلف على البيع والشراء غالباً ما يقع في الكذب، ويكون في الجملة واقعاً في الإثم؛ لأنه لا يجوز الحلف في البيع والشراء، وعليه أن يقول: أنا لا أحلف، إن شئت صدقتني وإلا ذهبت إلى غيري، وهذا لا يختص بإنسان واحد، لماذا يحلف بالله عز وجل على أمور تافهة؟ والله جل وعلا يقول: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة:٨٩] ومن حفظها أن لا تبتذل في الأمور التافهة مثل هذه المسألة.