للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الرد على المرجئة والكلابية في حقيقة الإيمان]

قال الشارح رحمه الله: [وفي الآية رد على المرجئة والكرامية، ووجهه: أنه لم ينفع هؤلاء قولهم: آمنا بالله.

مع عدم صبرهم على أذى من عاداهم في الله، فلا ينفع القول والتصديق بدون العمل، فلا يصدق الإيمان الشرعي على الإنسان إلا باجتماع الثلاثة: التصديق بالقلب وعمله، والقول باللسان، والعمل بالأركان.

وهذا قول أهل السنة والجماعة سلفاً وخلفاً، والله سبحانه وتعالى أعلم].

الكرامية والكلابية من الطوائف القديمة، أما الكرامية فنسبة لـ ابن كرام، والكلابية نسبة لـ أبي سعيد عبد الله بن محمد بن سعيد بن كلاب، وكلاهما من الذين قاموا على أهل البدع من المعتزلة وغيرهم، ولكن المشكلة أنهم ردوا عليهم ببدع مثل بدعهم فأخطئوا، وإن كانوا أقرب إلى أهل السنة من أولئك.

إلا أن مذهب الكلابية لا يزال موجوداً وهو مذهب الأشاعرة اليوم؛ فمذهب الكلابية أصل مذهب الأشاعرة، والمقصود بالرد: أن الإيمان عند أهل السنة مركب من أمور ثلاثة: من عمل محله القلب، ومن قول يكون باللسان، ومن عمل يكون بالجوارح، وإذا تخلف شيء من ذلك فالإيمان متخلف غير موجود.

فالقول المقصود به قول: (لا إله إلا الله)، وهذا مما لابد منه، فإن الإنسان لو اعتقد في قرارة نفسه، جازماً بصحة الإسلام، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنه لم ينطق بالشهادتين؛ فإنه يكون كافراً بإجماع العلماء، لابد من النطق بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: (لا إله إلا الله)).

ثم مجرد القول لا يكفي، فلابد أن يعرف معنى هذا القول ويعتقد صحته، لأنه لو كان مجرد القول كاف لما كان الكفار والمشركون الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم متوقفين عن هذا القول أن يقولوه، ويبقوا على دينهم، ولكنهم علموا أن المقصود بالقول المعنى، وأن هذا القول يبطل كل شرك كائن.

ولأنهم يعرفون حقيقة الألفاظ، قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص:٥] لما قال لهم قولوا: لا إله إلا الله، فهم عرفوا أنه جعل التعلق كله لله، والآلهة كلها باطلة فأبوا أن يقولوا هذا القول، أما لو كان مجرد قول باللسان فقط مع بقائهم على دينهم لسارعوا إلى ذلك ولم يترددوا، وقد عرضوا على الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يعبد آلهتهم يوماً وهم يعبدون الله يوماً، فأمره الله جل وعلا أن يتبرأ من ذلك، وقال: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون:١ - ٣] إلى آخرها.

الأمر الثالث: العمل، فإذا قال واعتقد صحة القول لكنه لا يصلي ولا يزكي ولا يصوم ولا يحج، ولا يعمل الأعمال التي أمر بها، فهذا لا ينفعه قوله وعقيدته، فلابد من اجتماع هذه الأمور الثلاثة، هذا قول أهل السنة.

أما هؤلاء الذين ذكرهم فعندهم أن القول والتصديق بالقلب كاف، وهذا رد لكتاب الله جل وعلا ولما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وكثيراً ما كان الله يقرن العمل بالإيمان في كتابه، كقوله تعالى: (الذين آمنوا وعملوا الصالحات)، مما يدل على أن مجرد الإيمان بلا عمل لا يمكن، وإنما هذا تقدير يقدرونه في أذهانهم، أما إن وجد الإيمان الحقيقي في القلب فلابد أن يبعث على العمل.

ومن هنا علم أن الإيمان مركب من أمور ثلاثة: من القول الاعتقاد، ومن الأعمال، وهي الفروض التي فرضها الله جل وعلا، وهذا هو الحق، الذي تدل عليه الآيات الكثيرة، وجاء كلام الشارح هذا عرضاً واستطراداً.

قال الشارح: [وفيه الخوف من مداهنة الخلق في الحق، والمعصوم من عصمه الله تعالى].

المداهنة معناها: أن يوافقهم على باطلهم وهو يعتقد بطلان ذلك، ولا ينكر عليهم ولا يتبرأ من فعلهم، وهو كاره لذلك مبغض له في حقيقة الأمر، ولكنه وافقهم في الظاهر، فهذه مداهنة، والمداهنة لا تكون إلا لخائف أو لضعيف، فإذا كان ضعيفاً أو خائفاً داهن، والحق لا يجوز أن يكون فيه مداهنة؛ لأن أمر الله جل وعلا أولى بالطاعة والامتثال، وخوف الناس لا يجوز أن يسيطر على الإنسان، لا يجوز للإنسان أن يجعل خوف الناس أكثر من خوف الله جل وعلا، فإنه إذا كان بهذه المثابة فهو ضعيف الإيمان وقد يقع في الشرك؛ لأن تقديم خوف الناس على خوف الله من أنواع الشرك.