للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

شرح حديث: (العيافة والطَّرق والطيرة)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال أحمد: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا عوف عن حيان بن العلاء حدثنا قطن بن قبيصة عن أبيه: أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إن العيافة والطَّرْق والطيرة من الجبت).

قال عوف: العيافة: زجر الطير، والطرق: الخط يخط بالأرض].

هذا الحديث رواه الإمام أحمد، ورواه كذلك أهل السنن: أبو داود والنسائي، وإسناده جيد كما قال الحافظ ابن حجر رحمه الله، وقال عن حيان بن العلاء: إنه مقبول، وقال عن قطن بن قبيصة: إنه صدوق.

وعوف الأعرابي فسر العيافة والطَّرْق في قوله: (إن العيافة والطرق من الجبت) فقال: العيافة: زجر الطير، والطرق: الخط يخط في الأرض.

والعيافة: من عاف يعيف، وقد يسمون العيافة طيرة؛ لأنها نوع من الطيرة والتطير، وهي: أن يتطير أو يتشاءم بفعل الطيور أو بأسمائها وذواتها، فمثلاً: إذا رأى المتطير عقاباً قال: هذا يدل على العقاب، أو رأى غراباً قال: يدل على الغربة والكربة وهكذا، وهذه كانت عادتهم، والطيور ليس عندها علم الأمور المستقبلة، وليس لها من التصرف في الكون من الضر والنفع شيء، وإنما هي أوهام يلقيها الشيطان في نفوس بعض الناس، ثم قد يبتلى الإنسان بالوهم الذي يلقى في نفسه ابتلاًء واختباراً من الله جل وعلا؛ ولأن من تعلق قلبه بشيء فإنه يميل إليه، وقد يوكل إليه.

فإذا تعلق قلب الإنسان بمخلوق يوكل إلى ذلك المخلوق، ومن يوكل إلى مخلوق فقد وكل إلى ضعف.

أما الذي يتعلق قلبه بالله جل وعلا فإنه لا يلتفت لا إلى طيور ولا إلى حيوانات ولا إلى غيرها، بل يعلم أن ربه جل وعلا هو المتصرف في كل شيء، وأنه لا يكون حركة أو سكون إلا بإرادته ومشيئته، وأن كل أمر قد كتب على الإنسان، ولا يصيبه إلا ما كتبه الله عليه، وأما هذه المخلوقات فهي مدبرة مسخرة لله جل وعلا، لا تملك لنفسها نفعاً ولا ضراً فضلاً عن أن تملكه غيرها، فكيف يتعلق العاقل بشيء وهمي لا حقيقة له؟! وسيأتي الكلام عن الطيرة وأنها من الشرك.

وأما الخط فذكر أنه خطوط تُخط، ومن الناس من يتخذ هذه الأشياء ويستدل بها على شيء في المستقبل، فيأتي ويخط خطوطاً بسرعة، ثم ينحى اثنين واثنين واثنين، فإذا بقي اثنان قال: إنه سيكون كذا وكذا من الأمور المحبوبة له أو لمن أمره أن يخط له، وإن بقي واحد أخبر بأنه سيكون شيء مكروه، وأنه سيكون خلاف ما توقع وما أراد، أو أنه سيفعل كذا وكذا، ومن هذا القبيل ما يسميه بعض الناس قراءة الفنجان، أو مناجاة الفنجان أو ما أشبه ذلك من الأمور المستحدثة، وكلها أوهام من أوهام الشيطان.

وقد تغير أسلوب الكهنة والسحرة في هذه الأيام، فصاروا يسمون بعض هذه الأمور: التنويم المغناطيسي، وقد يسمونه: تحضير الأرواح، وما أشبه ذلك من الأمور التي هي محرمة، بل هي شركية من الشرك.

ومن ذلك ما يفعله بعض الجهلة من النساء وغيرهن وهو داخل في الطرق: الضرب بالحصى وأو الضرب بالودع وما أشبه ذلك، وصورته: أن يكون عندها شيء معين ثم تلقي من هذه الأشياء وتنظر ما الذي يكون، وهل هو زوجي أو فردي أو ما أشبه ذلك؟ ثم تحدس حدساً وظناً، وقد يتصل بها شيطان من شياطينها ويخبرها بشيء يعرفه ذلك الشيطان، فيقع بعض هذا المخبر به أو يصبح مطابقاً للواقع الذي مضى خبرها عنه؛ فيفتتن بها من يفتتن، وهذا نوع من أنواع السحر.

فالواجب على العبد أن يجتنب كل محرم حرمه الله جل وعلا وحذر منه رسولنا صلى الله عليه وسلم من هذه الأمور، وإن كانت هذه يفعلها الجهال أو يفعلها الذين يتكسبون بالأمور الوهمية ويدجلون على الناس فيجب أن تُمنع، وأن يُتنبه لها، وأن يُعلم أنها ضلال وباطل، وأن الغيب بيد الله جل وعلا، والتصرف بيده، ولا أحد يملك من ذلك شيئاً، والإنسان قد يستعجل الشيء الذي يتوقعه كالخبر عن غائب مسافر أو خبر عن أمر يريده لنفسه أو ما أشبه ذلك فيذهب إلى هؤلاء الطرقية أو السحرة فيستخبرهم، ويكون حكمه حكمهم؛ لأنه رضي بفعلهم وصدقهم، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد)، وهذا مناف للتوحيد؛ لأن التوحيد هو: أن يعتقد الإنسان أن التصرف بيد الله جل وعلا، وأنه النافع الضار الذي لا يقع شيء إلا بإذنه، وقد أعلمنا جل وعلا أنه اختص بالغيب، وأن الغيب لا يعرفه إلا فاطر السماوات والأرض تعالى وتقدس، وقد يُطلع بعض عباده على أمر مغيب، فيكون الغيب في هذا الأمر بالنسبة إليه معلوماً؛ لأن الغيب قسمان: غيب نسبي وغيب مطلق، فالنسبي في الأمور التي غابت عن الإنسان، ولا يجوز له أن يتكلم فيها، وإذا كان الإنسان يعرف منها شيئاً فهذا ليس غيباً، وإنما هو حاضر ومشاهد.

أما الغيب الذي يكون من الأمور المستقبلة والحوادث التي تحدث فإن هذا لا يعلمه إلا الله، ومن تعاطى شيئاً من ذلك فقد أبطل دينه، إذ إنه تعلق على شيطان ونازع الله جل وعلا في علم الغيب، وهو خصائصه، ومن نازع الله في خصائصه فإنه يكون محارباً لله جل وعلا، بل لا يكون عبداً لله، وإنما يكون عبداً للشيطان الذي أطاعه.

أما الجبت فقد فسره بأنه رنة الشيطان، فقال: والجبت: رنة الشيطان، ورنة الشيطان: هي صوته وأنينه، فإذا صوت متحزناً متألماً فإنه يعمل عملاً قدر ما يستطيع أن يضل الإنسان به، ويبعث جنوده لإضلالهم، ومن ذلك: أمره إياهم بأن يعلموا الناس الطرق والعيافة، وأن يحملوهم على ذلك.

وقد جاء أنه رن رنات: الأولى رن يوم لعنه الله؛ لأنه كان من المتعبدين أولاً، فلما عصى ربه وأبى السجود لآدم وقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:١٢] لعنه الله جل وعلا، وجعله شيطاناً رجيماً مرجوماً ملعوناً.

الثانية: رن لما أهبط؛ لأنه كان في ملكوت السماء فأهبط إلى الأرض، وحرست السماء منه ومن جنوده.

الثالثة: لما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن ولادته مقدمةً لإبطال دينه، وما يدعو الناس إليه من الشرك.

الرابعة: يوم أنزلت فاتحة الكتاب؛ لأن فيها من الخير والفضل الذي أرغمه وأحزنه.

فالشيطان إذا رن اجتمعت عليه جنوده، فإذا اجتمعت أمرهم بالاجتهاد في إفساد عقائد الناس وأعمالهم، فكلما رن رنة انبعث من رنينه اجتهاد منه ومن جنوده وحرص على إفساد أديان الناس وكسبهم إليه.

وجاء عن ابن عباس أيضاً: أنه رن لما فتحت مكة، فمعنى رنة الشيطان: أن الشيطان يأمر بالطرق وبالعيافة وبالسحر، فهذا ناتج عن ذلك.