للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[شروط وقوع الشفاعة]

قال الشارح رحمه الله: [وقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:٢٥٥]: قد تبين مما تقدم من الآيات: أن الشفاعة التي نفاها القرآن هي التي تُطلب من غير الله، وفي هذه الآية: بيان أن الشفاعة إنما تقع في الدار الآخرة بإذنه كما قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلَاً} [طه:١٠٩] فبين أنها لا تقع لأحد إلَّا بشرطين: إذن الرب تعالى للشافع أن يشفع.

ورضاه عن المأذون بالشفاعة فيه].

قوله: {إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلَاً} [طه:١٠٩] أما الإذن فهو للشافع، وأما الرضا فهو عن المشفوع له، والله جلَّ وعلا لا يرضى إلَّا التوحيد، أما الشرك فلا يرضاه، فمعنى ذلك أن الشفاعة تكون لأهل التوحيد، وهذا بُيِّن في الأحاديث بياناً واضحاً، فلما قال أبو هريرة: (يا رسول الله! من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: من قال: (لا إله إلَّا الله) خالصاً من قلبه) يعني: أنه ليس عنده شيء من الشرك، ولا التعلق بغير الله، وكذلك الحديث الذي ذكرنا وفيه: (فهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئاً) فتبين أنه إذا مات الإنسان مشركاً بالله شيئاً أنه لا تنفعه الشفاعة ولهذا يقول: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:٤٨]، ويقول جلَّ وعلا في آيات كثيرة: {وَاتَّقُوا يَوْمَاً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئَاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} [البقرة:٤٨]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} [البقرة:٢٥٤] فالشفاعة التي نفاها جلَّ وعلا هي: التي يتعارفها الناس وتقع لبعضهم من بعض، ولو لم يكن المشفوع عنده آذناً أو راضياً؛ وهذا لنقص الإنسان؛ لأن الإنسان يحتاج إلى الناس الآخرين، ولو كان ملكاً، يحتاج إلى مساعدة وزرائه وأمرائه وأعوانه، وإذا لم يقبل شفاعتهم يخشى أن ينتقدوا عليه، وألَّا يؤدوا الواجب من النصح له وما يريد، فيقبل شفاعتهم مضطراً، وقد يقبل المخلوق شفاعة زوجته أو شفاعة ابنه أو شفاعة أخيه أو قريبه أو صديقه؛ لأنه يحتاج إليهم، أما رب العالمين جلَّ وتقدس فهو الغني بذاته عن كل ما سواه، وكل من سواه فقير إليه، فالملك كله بيده، وله تمامه، ولهذا صار طلب الشفاعة من غيره شرك؛ لأنه جعل ما هو حق لله سبحانه للمخلوق، وهذا سبب في منع الشفاعة التي يزعم أنها تقع له؛ لأنه ارتكب المانع من قبل نفسه، وخالف ما جاء عن الله جلَّ وعلا، ولأنه لم يعرف الله جلَّ وعلا حق المعرفة، ولم يجعل له الحق الذي أوجبه عليه، فصرف بعضه للمخلوق، فاستحق بذلك الحرمان.

قال الشارح رحمه الله: [وهو تعالى لا يرضى من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة إلَّا ما أريد به وجهه، ولقي العبد به ربه مخلصاً غير شاك في ذلك، كما دل على ذلك الحديث الصحيح، وسيأتي ذلك مقرراً أيضاً في كلام شيخ الإسلام رحمه الله.

قال المصنف رحمه الله تعالى: وقوله: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئَاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:٢٦]].

قوله: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ} [النجم:٢٦] (كم) هذه: خبرية، ومعناها: كثير، أي: كثير من الملائكة، والملائكة أخبر الله جلَّ وعلا عنهم أنهم: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:٦]، وأنهم: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:٢٠] لا يفترون أبداً، دائمون في التسبيح والتهليل والعبادة، ولا يعصون الله طرفة عين، ومع هذه العبادة وهذا العمل الدائم في طاعة الله جلَّ وعلا لا تنفع شفاعتهم عند الله لأحد إلَّا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء منهم أن يشفع، ولمن شاء أن يشفعوا له، فهذا كالآية السابقة يبين جلَّ وعلا فيها أن المقربين عنده لا تنفع شفاعتهم ولا تجزئ لأحد، ولا يستطيع أحد أن يتقدم للشفاعة إلَّا إذا أذن له جلَّ وعلا، والإذن هو أمره بأن يشفع، وأن الشفاعة لا تقع منهم ولا من غيرهم إلَّا لمن رضي الله جلَّ وعلا عنه.

إذاً: تكون الشفاعة -بدليل هذه الآيات- لأهل التوحيد، الذين يموتون على التوحيد، فهم الذين تنفعهم شفاعة الشافعين، وذلك من فضل الله فيأمر الشافعين أن يشفعوا لهم؛ لإظهار كرامتهم فقط، وإلَّا فالأمر لله جلَّ وعلا.

أما المشرك الذي يدعو غير الله فهذا لا تنفعه شفاعة الشافعين، كما أخبر الله جلَّ وعلا بذلك في آيات متعددة كثيرة.