للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[التفسير النبوي لقوله تعالى: (اتخذوا أحبارهم)]

ثم ذكر قول الله جل وعلا الذي هو الأصل في هذا ثم فسرها بالتفسير الواضح (وهو التفسير النبوي) كما جاء في حديث عدي بن حاتم: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ} [التوبة:٣١] إلى آخره.

وكان عدي بن حاتم نصرانياً من نصارى العرب، وعدي هذا هو ابن حاتم الطائي الجواد المشهور الذي يضرب بجوده المثل، ولكن حاتماً مات في الجاهلية كافراً فلا ينفعه جوده ولا ينفعه كرمه؛ لأنه لم يكن مسلماً، وكان عدي كريماً مثل أبيه ورث منه ذلك، ولكنه كان متنصراً وكان في طيء، أي: في حائل، وكان له مال وغلمان، وكان يحذر من دعوة الرسول، فكان يقول لغلمانه إذا رأيتم خيل محمد فأخبروني، وقد أعد له نجائب فأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم سرية بقيادة علي بن أبي طالب إلى طي فوصلوا إليه فجاء أحد غلمانه وقال: ما كنت صانعاً إذا جاءتك خيل محمد؟ فركب مطاياه وذهب إلى الشام إلى النصارى إلى أهل دينه، وترك أهله وماله فاراً بدينه كما زعم، ولكنه يفر إلى الشيطان، إلا أن الله يمن على من يشاء، فأخذت الخيل أخته مع السبايا التي سبيت، وأخته كانت كبيرة في السن.

فلما وصلت إلى المدينة وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر السبايا قالت له: (مُنَّ عليَّ من الله عليك فقد ذهب الوافد وقل الرافد)، يعني: ليس لها شيء تفدى به وليس لها من يطالب بها، فقال لها: (ومن الوافد؟ قالت: عدي بن حاتم قال: ذاك الذي فر من الله ورسوله)، ثم ذهب وتركها، فلما جاء مرة أخرى أعادت عليه الكلام فقال لها: إذا جاء ركب من قومك فأعلميني، فقال لها علي بن أبي طالب: اسأليه الركوب والمركوب يعني: اسأليه شيئاً تتبلغي به، فصارت تسأل، فلما جاء الركب أخبرته وسألته أن يعطيها ما تتبلغ به فأعطاها ما سألت صلى الله عليه وسلم ومن عليها وذهبت إلى بلادها، فلما وصلت إلى بلادها كتبت إلى أخيها تؤنبه تقول: والله إنه أكرم من أبيك فأت إليه.

فجاء إلى المدينة والرسول صلى الله عليه وسلم ما كان يعرفه، فدخل عليه وهو جالس في المسجد مع أصحابه صلى الله عليه وسلم، وكان الرجل الغريب إذا جاء إليه لا يميزه من أصحابه؛ لأن مجلسه بينهم وليس له مجلس مرتفع عليهم، بل يجلس معهم كأحدهم ولا يدع أحداً يقف، بل إذا جاء وهم جلوس لا يدع أحداً يقوم وينهى عن ذلك أشد النهي، ويقول: (من أحب أن يتمثل له الناس قياماً فليتبوأ مقعده من النار)، كان الرجل إذا جاء يقول: أين محمد بن عبد الله؟ أو أين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيشيرون إليه.

فلما جاء كان في أصحابه من يعرف عدي فقال له: يا سول الله! هذا عدي بن حاتم، وكان صلوات الله وسلامه عليه يكرم كرماء الناس، فلما قالوا له قام معه إلى بيته، وقال: هلم، وكان في رقبة عدي صليب من ذهب، فقال له صلى الله عليه وسلم: ألق هذا الوثن عنك، ثم قال له: أتفر أن يقال: لا إله إلا الله! وهل تعلم إلهاً يستحق العبادة غير الله؟! ثم قال: أتفر أن يقال: الله أكبر! وهل تعلم شيئاً أكبر من الله؟! يدعوه إلى الدخول في الإسلام، يقول عدي: فلقيته امرأة في الطريق قبل أن يصل إلى بيته، فقالت: إن لي إليك حاجة، فترك عدياً وأقبل عليها حتى قضى حاجتها، تستفتيه أو تسأله شيئاً يقول: فعلمت أنه ليس ملكاً، لأن الملك لا يقف مع المرأة الضعيفة في مثل هذا الموقف، يقول: فدخل إلى بيته فألقيت له وسادة فوضعها لي، فقلت: لك! فجعلها بيني وبينه، ثم تلا الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً} [التوبة:٣١]، عند ذلك قال له عدي: (يا رسول الله! إننا لم نعبدهم، فقال له: بلى، ألم يحلوا لكم الحرام فتتبعوهم، ويحرموا عليكم الحلال فتتبعوهم؟ فقلت: بلى قال: تلك عبادتهم)، يعني: أن اتباعهم في تحليل الحرام وتحريم الحلال هي العبادة التي قصدت في الآية، عند ذلك قال عدي: إني حنيف مسلم يقول: فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل مسروراً فرحاً بإسلامه حيث أسلم.

والمقصود هنا: أن قول الله جل وعلا: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ}، الأحبار: العلماء، أما الرهبان فهم العباد، والأحبار غالباً من اليهود، واليهود يغلب عليهم العلم ولكن تغلب عليهم القساوة والجفاء والعناد والكبر والإباء وعدم العمل بالعلم، ولهذا صاروا أهل غضب الله عليهم ولعنته.

أما النصارى فيغلب عليهم الجهل ويكثر فيهم التعبد والترهبن، فالرهبان منهم، والرهبانية هي ترك الدنيا والتخلي للعبادة والتقشف والانعزال عن الخلق، يكون الواحد منهم في صومعة يترهبن وهذا يوجد في النصارى بكثرة، ولكنهم على ضلال وعلى جهل، فالجهل يغلب عليهم، ولكن الناس -غالباً- جبلوا على طاعة العلماء وتعظيمهم وكذلك العباد الذين يتعبدون ويتزهدون، فلهذا قال جل وعلا: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:٣١].

وعدي بن حاتم بين أنهم ما كانوا يسجدون لهم وما كانوا يدعونهم في كشف الخطوب وإزالة الكروب وإيهاب المرغوب، وإنما كانوا يطيعونهم إذا أمروهم بأوامر ويعرفون أن هذه الأوامر ليست في التوراة التي نزلت على موسى، ولا في الإنجيل الذي أنزل على عيسى عليهما الصلاة والسلام، فأحسنوا الظن بهم فاتبعوهم في ذلك وقالوا: هم الذين يعرفون المعاني ويفسرون كلام الله جل وعلا ونحن نتبعهم ونكتفي بأقوالهم، فصاروا بذلك متبعين لهم عابدين لهم.