[قصة موسى مع فرعون]
ثم جاء فرعون بعد ذلك واستعبد بني إسرائيل، وصار يقتل أبناءهم ويبقي نساءهم للخدمة.
ثم إن قومه سخروا بني إسرائيل في الأعمال العظيمة التي ألهبوا ظهورهم بالسياط من أجلها، كبناء الأهرامات وغيرها بالقهر والقوة والظلم والجبروت، وأرادوا أن يبقوا تحت أيديهم مقهورين مذللين، فقالوا: إذا قتلنا كل مولود فلن يبقى عندنا عمال نسخرهم، فاتفقوا على أنهم يقتلون الأولاد سنة ويبقونهم سنة، حتى يبقى عندهم من يعمل ومن يستخدمونه، والسبب في هذا: أنه قيل لفرعون - قبحه الله وأخزاه وقد فعل: إن ملكك سيكون زواله على يد رجل من بني إسرائيل، فهذا هو السبب في كونه كان يفعل هذه الأفاعيل.
ومن حكمة الله جل وعلا وتمام مقدرته أن هذا الرجل -من بني إسرائيل- يتربى في بيته، يأكل من طعامه، ويشرب من شرابه إلى آخر القصة التي ذكرها الله جل وعلا في كتابه، وهذا فيه معتبر، ولكن العجيب الذي ينبغي أن يؤخذ منه عبرة هو: الآيات الباهرة التي جاء بها موسى، حتى لا يكاد يشك من رآه بأنه نبي مرسل من عند الله جل وعلا، وقد تيقن فرعون وقومه بهذا كما أخبرنا الله جل وعلا، وكذلك بنو إسرائيل تيقنوا يقيناً أنه رسول؛ لأنهم شاهدوا الآيات العظيمة.
ومن العبرة التي ينبغي أن نتفطن لها في هذه القصة: أن الله جل وعلا لما أمر موسى عليه السلام بأن يسري بقومه ليلاً من مصر، هارباً من فرعون وقومه، علم فرعون بخروجهم، فحشد جنوده وقال لهم: هؤلاء شرذمة قليلون، فلحقهم إلى أمام البحر، فصار البحر أمامهم وفرعون وجنوده خلفهم، عند ذلك قالوا لموسى: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:٦١] يعني: أدركنا فرعون، كيف الطريق؟ ولكن موسى عليه السلام واثق بأمر الله ووعده، ولهذا قال: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:٦٢]، فأمره الله جل وعلا أن يضرب البحر، فضربه بعصاه فانفلق، فكان سبعة طرق، كل طريق مثل السوق العظيم الكبير، والماء واقف، وأرضه يابسة ليس فيها مدحضة ولا مزلة كأنه لم يجر عليها ماء.
ثم من تمام المنة والحكمة كما يقول المفسرون: أن جعل البحر الذي بين كل طريق وآخر لا يستر من يسلكه، حتى يروا أصحابهم، فكل واحد في طريقه يرى أصحابه الذين في الطريق الآخر فيطمئن، ثم مع هذه الآية الباهرة العظيمة في كونهم يسلكون البحر تبعهم فرعون وسلك هذه الطرق -والبحر هو: البحر الأحمر- ثم لما خرج بنو إسرائيل وتكامل خروجهم وقد تكامل جند فرعون في البحر أمر الله جل وعلا البحر فالتحم عليهم وأغرقهم.
وذكر المفسرون أن بعض بني إسرائيل شكوا في موت فرعون، وقالوا: لم يمت، فألقى الله جل وعلا ببدنه، فلما رأوه وشاهدوه عرفوا أنه قد مات، قال الله جل وعلا: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:٩٢].
ومع هذا كله مروا -بعد خروجهم بقليل- على قوم يعكفون على أصنام لهم -وهذا هو المقصود الذي نعتبر به- فسألوا موسى عليه السلام أن يجعل لهم آلهة يعكفون عليها، كما عكف أولئك المشركون عليها، وهذا شرك ظاهر جلي لا خفاء فيه، بل قد يظهر للإنسان الذي يتأمل أن هذا فيه نوع من العناد والمكابرة، وكثيراً ما حصل العناد منهم لنبيهم، حتى قالوا له: {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:٢٤] لما أمرهم الله جل وعلا على لسان رسوله أن يدخلوا على الجبارين، ووعدهم النصر، قالوا هذه المقالة، وهذا تحدٍ ومكابرة وعناد وعدم ثقة بوعد الله وأمره.
ثم مع هذا كله يقول رسولنا صلوات الله وسلامه عليه لهؤلاء الذين قالوا له هذه المقالة: (قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:١٣٨]) والرسول صلى الله عليه وسلم إذا حلف وأقسم إنما يقسم على ما فيه مصلحة، وذلك حتى نتأكد ونعلم مطابقة الأمر، وإن كان فيه تفاوت، فالنتيجة واحدة، وهي أن طلب البركة وكذلك العكوف على شيء مخلوق كالشجرة ونحوها -تعبداً وتألهاً- لغير الله شرك، وإن كان الشرك يتفاوت، فبعضه أعظم من بعض، ولكن هذا يدلنا على أن ذلك من الشرك الأكبر وليس من الشرك الأصغر.
فعلى هذا إذا تقدم إنسان إلى صاحب قبر -سواء قال: إنه نبي أو ولي- يطلب منه العون والمساعدة والمدد، أو جلس عند قبره يتبرك به، أو أخذ من ترابه يتبرك به، أو ما أشبه ذلك فإن هذا من الشرك الأكبر، وإن مات على هذا فهو من المشركين.
أما إذا تاب فباب التوبة مفتوح، والتوبة تكون من كل ذنب، ولكن هذا هو الذي نريد أن نعتبر به، ونأخذ الدرس منه من هذه الناحية، وهذا هو وجه الشبه الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم.