خلاصة صفات السبعين ألفاً
صفات الذين يسبقون إلى الجنة بغير حساب ولا عذاب أربع: الأولى: أنهم لا يسترقون أي: لا يطلبون من يرقيهم.
وعرفنا أن معنى ذلك أن المحذور هو الطلب وليست الرقية، أما الرقية بنفسها فهي جائزة بل مستحبة, والرسول صلى الله عليه وسلم كان يرقي نفسه وغيره، وقد رقاه جبريل، وسيأتي الكلام في الرقية إن شاء الله.
والصفة الثانية: أنهم لا يتطيرون.
والتطير نوع من الشرك، وذلك هو التشاؤم بأفعال الطيور وبأصواتها، بأن يستدلوا بأفعالها على ما سيقع لهم، وهذه أمور يلقيها الشيطان في نفوسهم، وهي وهمية لا حقيقة لها، ولكن قد يبتلى الإنسان بما يعتقده وكله فتنة وبلوى، والذي يتعلق بغير الله جل وعلا يوكل إلى ذلك الذي تعلق به، فهذا معناه أنهم لا يعملون شيئاً من الشرك فـ (لا يتطيرون): لا يعملون شيئاً من الشرك.
الصفة الثالثة: أنهم لا يكتوون.
والكي جائز في الجملة، وهو سبب، ولكنه من الأسباب المكروهة؛ لأن الأسباب التي يطلب بها حصول المسبب قسمها العلماء إلى أقسام ثلاثة: قسم منها ممنوع محرم، وهذا كل ما حرمه الله جل وعلا وإن كان سبباً لحصول منفعة ما، فمثلاً الخمر قد يقال: إنها سبب للصحة أو ما أشبه ذلك، فهذا ممنوع محرم، وكذلك التداوي بالأمور المحرمة لا يجوز.
والقسم الثاني: أسباب مكروهة، مثل كون الإنسان يكتسب الرزق بسبب مكروه مثل الحجامة وما أشبه ذلك مما ذكر في الحديث، ومثل ذلك الكي طلباً للشفاء؛ فإنه قد يكون سبباً ولكنه سبب مكروه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كره الكي، وقد أخبر أن فيه الشفاء، ومع ذلك قال: (وأكره لأمتي الكي)، وفي رواية: (ولا أحب الكي)، فهذا لأن العلة -كما يقول بعض العلماء- فيه أن الألم فيه أمر محقق، وأما الشفاء فهو أمر مظنون، فاستعجل الأمر المحقق الذي هو الألم بشيء مظنون مما يدل على تشبثه بالدنيا وتمسكه بها ورغبته فيها، فهنا قال: إنه يكره.
وكذلك ما أشبهه، ولكن لا يدخل في هذا -مثلاً- إجراء العمليات التي قد علم أن الغالب عليها السلامة والشفاء، فإنها ليست من هذا الباب، بل هي من باب العلاج الذي سبق أن بعض العلماء يقول: إنه مستحب استحباباً يداني به الوجوب.
الصفة الرابعة: أنهم على ربهم يتوكلون، وحقيقة التوكل: فعل السبب الذي أمر به والاعتماد على الله جل وعلا في حصول المطلوب المقصود.
وليس ترك الأسباب من التوكل في شيء، فترك الأسباب عجز في الإنسان وقدح في عقله، وكذلك هو قدح في الشرع؛ لأن الشرع أمر بفعل السبب، وأخبر الله جل وعلا أنه جعل لكل شيء سبباً، فيجب أن يفعل ذلك السبب، ولكن يجب أن يكون سبباً أباحه الله، ويجب ألا يكون الإنسان معتمداً على السبب، وألا يضيف إليه الأمر الذي سيقع، بل يضيفه إلى الله، ويعتمد على الله في حصول ذلك، والتوكل من أفضل الأعمال وأجلها، أعني أعمال القلوب، ولهذا صارت هذه الخصلة الرابعة هي الجامعة لما سبق، تجمع ما سبق كله، فلتمام توكلهم لا يطلبون الرقية من أحد، والطلب في غير الرقية من باب أولى، فهم لا يطلبون شيئاً من أمور الدنيا، ولا يتطيرون؛ لأنهم يعلمون أن ما أصابهم لم يكن ليخطئهم، وما قدره الله لا بد من وقوعه، وأن الله قضى ما هو كائن إلى يوم القيامة، وأن الطيور ليس عندها تصرف، وليس عندها نفع ولا ضر، ولا خير ولا شر، وإنما هي مسخرة مخلوقة كسائر العوالم التي خلقها الله جل وعلا لحكمة، فليس عندها مما يزعمه المشركون فيها.
وكذلك كونهم لا يكتوون، فيرضون بما قدر الله لهم، ولكن ليس معنى هذا أنهم يتركون العلاج؛ لأن العلاج قد جاء الأمر به في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (تداووا عباد الله؛ فإن الله ما أنزل داءً إلا وأنزل له شفاءً علمه من علمه وجهله من جهله إلا داءً واحداً وهو الهرم)، فأمر بالتداوي وحث عليه، وهو صلوات الله وسلامه عليه كان يتداوى مما أصابه من السم ومن السحر ومن غير ذلك.