للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[معرفة علماء اليهود بأن النبي عليه الصلاة والسلام حق]

قال الشارح: [قوله: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء:٥١] روى ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: جاء حيي بن الأخطب وكعب بن الأشرف إلى أهل مكة، فقالوا لهم: أنتم أهل الكتاب وأهل العلم، أخبرونا عنا وعن محمد، فقالوا: ما أنتم وما محمد؟ فقالوا: نحن نصل الأرحام، وننحر الكوماء] الكوماء هي الناقة السمينة التي عليها الشحم، سميت كوماء لأن على سنامها شحم متكوم متكدس، وهذه أطيب لحماً، وأغلى ثمناً، ومن نحرها يدل على كرمه وجوده، فوصفوا أنفسهم بذلك، وهذه القضية وقعت بعد وقعة بدر، وذلك أن اليهود أهل حسد وحقد، لم ينكروا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، بل عرفوا أنه حق ولكنهم أبوا قبوله، والعجيب أنهم جاءوا إلى المدينة يطلبون ويتحرون مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتبعوه، وكانوا يظنون أنه منهم من ذرية يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، فلما تبين أنه من ذرية إسماعيل بن إبراهيم من أبناء عمهم حقدوا عليه، وأنكروه، وكفروا به بعدما عرفوا! قال الله جل وعلا: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:١٤٦]، بل قال الذين آمنوا منهم مثل عبد الله بن سلام: والله إننا لنعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من معرفتنا لأبنائنا، وذلك أن أحدنا يخرج من بيته ثم لا يدري ماذا تصنع زوجته، وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا نرتاب بأي وجه من الوجوه أنه رسول جاء من عند الله جل وعلا، ومع ذلك الذين آمنوا منهم لا يتجاوزون عدد الأصابع! الشيء الثاني من العجب! أنهم لما نزلوا في المدينة، وكان أهل المدينة أبناء رجل واحد، ثم انقسموا إلى قسمين أوس وخزرج، فصار -كعادة الجاهلية وعادة العرب- قتال بينهم، فصار كل فريق من الأوس ومن الخزرج محالفاً لقبيلة من قبائل اليهود، وقبائل اليهود كانت ثلاث: بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة، فكل قبيلة من هؤلاء صارت مع طائفة من الأوس والخزرج، وسموهم حلفاء، فصار القتال قائماً أكثر من مائة سنة بينهم في المدينة قبل مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم، فكان إذا انتصر أحد الفريقين من الأوس والخزرج على هؤلاء اليهود يقولون لهم: إنه قرب وقت نبي سيبعث ونتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم، فيتوعدوهم بهذا.

فكان هذا هو السبب في إسلام الأنصار، فقد كان العرب يحجون، أما اليهود فما كانوا يحجون، أما العرب فهم على إرث من إرث إسماعيل أبيهم؛ لأنه بعث فيهم، وبقي من دينه الحج إلى البيت، بقي إلا أنه غير بالشرك، فكانوا يقولون: لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا جاء وقت الموسم يذهب بنفسه ويعرض الإسلام على القبائل، ويقول: (ألا رجل يحملني إلى قومه حتى أبلغ كلام ربي، فإن قريشاً منعتني أن أبلغ كلام ربي).

فيمشي على القبائل ومعه بعض أعمامه وبعض الكفار يحذرون منه، ويقولون: لا تسمعوا له فإنه كذاب، وبعضهم يقول: إنه مجنون، ويرمونه بأشياء هي من أبعد ما يكون عنه صلوات الله وسلامه عليه، فعرض للأنصار فقالوا فيما بينهم: هذا هو الذي تتوعدنا اليهود به، فلا يسبقونكم إليه، يقول الله جل وعلا: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة:٨٩] يعني: جاءهم الرسول الذي يعرفونه، وكانوا يستفتحون به يعني: يقولون: إنه سيأتي وقته ونتبعه ثم نقتلكم معه، {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:٨٩]، وهذا مما يدل على أن الأمر بيد الله جل وعلا، وأن الإنسان وإن كان عالماً وإن كان عارفاً للحق إذا أريد فتنته فلا أحد يملك له شيئاً، فإنه يتجنب الحق الواضح الجلي ويتبع الباطل إذا لم يهده الله، وبهذا يتبين أن الإنسان بأمس الحاجة إلى طلب الهداية من الله دائماً، وإظهار الفقر؛ لأنه إذا لم يهده فإنه ضال؛ ولهذا أوجب الله جل وعلا على العباد أن يدعوه بطلب الهداية في كل ركعة من ركعات الصلاة {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:٦] هذا أمر ضروري جداً، ومن أهم ما ينبغي للإنسان أن يلازمه، فيسأل ربه الهداية دائماً، وهداية الإنسان ما تكمل وإن علم وعرف وتبين له الحق من الباطل، فهدايته بيد الله دائماً، ولا تكمل هدايته وتتم إلا إذا استقر في مسكنه في الجنة، هناك تمت الهداية.

وقد أخبر جل وعلا أن من تمام هداية المؤمنين هدايتهم إلى مساكنهم في الجنة، فإن الله يهديهم بإيمانهم إلى مساكنهم في الجنة حتى يعرفونها أكثر من معرفتهم بمساكنهم في الدنيا التي بنوها بأيديهم، وعمروها الوقت الذي كانوا في الدنيا، وهذا هو تمام الهداية، وهذا أمر ضروري جداً.

أما قول كثير من المفسرين أن معنى قوله جل وعلا: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:٦]، وكذلك معنى قوله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا} [النساء:١٣٦]: إن المعنى اثبتوا على الإيمان، ومعنى اهدنا: ثبتنا على الإيمان فإن هذا القول فيه قصور، فالإنسان بحاجة إلى هداية بعد هداية دائماً، ولا تكمل هدايته، وقد يضل في مسألة أو مسألتين أو أكثر أو يضل في أمور كثيرة، فهو دائم في أمس الحاجة إلى هداية ربه جل وعلا، والأمر كله بيد الله؛ لأنه هو مالك الملك تعالى وتقدس، وبيده الخير، يتصرف كيف يشاء، الخلق كلهم ملكه، خلقهم وملكهم وهو يتصرف فيهم، وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، وكثيراً ما كان رسول الهدى صلوات الله وسلامه عليه يقول: (لا ومقلب القلوب)، أكثر ما يحلف هكذا، قيل له مرة: (أتخاف علينا -يا رسول الله- وقد آمنا بك؟! فقال: وما يؤمنني وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن إذا شاء أن يقلبها قلبها؟) فهو جل وعلا يهدي من يشاء بعد الضلال كما أنه يضل من يشاء بعد الهدى.

إذاً: ليس غريباً أن الأحبار من علماء اليهود كـ حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف وغيرهما من علمائهم وكبرائهم وساداتهم وقاداتهم لما رءوا الحق بيناً واضحاً كوضوح الشمس شرقوا بالحق، وما استساغوه، بل كرهوه أشد الكراهية، حتى صاروا يسافرون ويركبون الإبل يبحثون عمن يكون عدواً لرسول الله صلى الله عليه وسلم يؤلبونه عليه، ويساعدونه على قتاله، ويحرضونه عليه، فلما انتصر صلوات الله وسلامه عليه على كبار المشركين في بدر أصابهم ألم ما استطاعوا معه القرار، ألم الحقد والحسد وكراهية الحق، فذهبوا إلى قريش يقولون: هذا الذي وتركم في رءوسائكم وكباركم هلم إلى قتاله، كيف يهنأ عيشكم وقد قتل كباركم؟ مع أنهم يعرفون أنه جاء بالوحي من عند الله حقاً! فهل يستوي العالم الذي يعرف كتاب الله مع عبدة الأوثان؟ بل صار كثير من عبدة الأوثان أفضل من هؤلاء، فالذي لم يرد الله جل وعلا هدايته فلن تملك له هداية أبداً، فعلى العبد أن يعرف هذا الأمر، ويسأل ربه دائماً أن يهديه.