للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[استحقاق الله للحمد في المبدأ والمنتهى]

فالله جل وعلا كل ما يفعله فهو عدل وحق يحمد عليه، ولهذا بين جل وعلا أن أفعاله كلها خير، وأنه يستحق عليها الحمد في المبدأ وفي المنتهى، ولهذا ذكر حمده في مبدأ الخلق وذكر حمده في نهايته، فقال جل وعلا في المبدأ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:١] هذا حمده في المبدأ، فهو المحمود على كل ما يفعله جل وعلا.

وحمده في المنتهى كما قال جل وعلا: {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر:٧٥]، فالملائكة يقضى بينهم بعد القضاء بين العباد، وقد قال قبل هذا: {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ} [الزمر:٦٩] لقد جيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق، وسائر الناس بعد ذلك، ثم انتهى بالملائكة.

فالمقصود أن هذا يدل على أنه يحمد حتى على دخول أهل النار النار، يحمد على ذلك، وأهل النار أنفسهم يقرون بهذا ويعترفون أن هذا هو جزاؤهم، وأنهم في المحل اللائق بهم الذي اقتضته حكمة الله جل وعلا، ويجب أن يظن الإنسان بربه خيراً ويحسن الظن بربه، ولهذا جاء قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه)، وفي الحديث القدسي أن الله جل وعلا يقول: (أنا عند ظن عبدي بي، فمن ظن خيراً وجده، ومن ظن سوءاً أو شراً وجده)، ولكن الظن يكون تبعاً للفعل، ليس معناه أن الإنسان يفعل المعاصي ويترك الواجبات، ويقول: أنا أظن بربي الظن الطيب والظن الحسن، وأنه سينجيني وسيتفضل علي.

فهذا تفريط وغرور من الشيطان، فالإنسان يجب عليه أن يمتثل أمر الله ويجتنب نهيه، ثم يظن بربه الظن الجميل الحسن أنه يجازيه ويعفو عنه، وأنه يجازيه على القليل كثيراً ويعفو عن سيئاته، ويجب أن يكون عند لقاء ربه أحسن ظناً منه في حالة صحته؛ لأنه أصبح أسيراً بين يدي الله جل وعلا، فعليه أن يحسن الظن بربه؛ لأن الله يعفو الذنب العظيم ويقبل اليسير بجوده وكرمه وسعة رحمته، وقد أرشدنا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، وجاء في الحديث: (لو يعلم الظالم والكافر ما عند الله من الرحمة والخير لطمع في ذلك)، مع أنه في المقابل المجتهد والمحسن لو يعلم ما عند الله من العقاب والنكال لأصابه من القلق ومن الخوف الشيء العظيم.

ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً)؛ لأنه هو أعلم الخلق بالله صلى الله عليه وسلم، وذكر (أن الله جل وعلا لما خلق النار أمر جبريل عليه السلام أن يذهب وينظر إليها، فنظر إليها فقال: لقد ظننت أن لا يسمع بها أحد فيدخلها، وخلق الجنة وأمره أن يذهب وينظر إليها فقال: لقد ظننت أن لا يسمع بها أحداً إلا ودخلها)، ثم إن النار حفت بالشهوات وحفت الجنة بالمكاره، فقال له جل وعلا: (اذهب فانظر، فقال: لقد خشيت أن لا ينجو من النار أحد وأن لا يدخل الجنة أحد).

فلابد للإنسان أن يبتلى بحب الدنيا والتمسك بها كثيراً، ولهذا تجده وإن كان مريضاً، -والمرض بريد الموت ورسول الموت- تجده يأمل ويخطط، وربما يخطط في نفسه أنه سيفعل ويفعل ويفعل، فهو متعلق بالدنيا مع أن الدنيا ليست شيئاً، وإذا مات فإنه لابد أن يبقى في قبره أكثر من بقائه على ظهر الأرض، وهذا بلا شك؛ لأن حياة الإنسان محدودة، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين)، هذه هي فترة الموت تبدأ من بعد الستين، وقليل من يجاوزها أو يجاوز السبعين، فأكثر الناس في هذا ما بين الستين إلى السبعين، فما هي الستون سنة أو السبعون سنة؟ ليست شيئاً، هي عمر شاة أو عنز، والإنسان أكثر عمره يذهب إما في نوم وإما في لعب وإما في أكل وشرب أو شهوة أو ما أشبه ذلك، إذاً ما الذي يمضيه في طاعة الله؟ أكثر عمره للدنيا، وقليل منه لآخرته، مع أنه مسافر إلى الله جل وعلا إلى الآخرة، كل الناس مسافرون إلى الآخرة، فمنهم من وصل وانتهت مراحله، ومنهم من هو في الطريق، والأيام والليالي كفيلة في تقريب المسافة وطوي المراحل.

ثم إذا بقي في قبره يبقى طويلاً، وقد يكون في قبره إما منعماً وإما معذباً ولابد؛ لأن القبر دار بعد هذه الدار، برزخ بين الحياة الدنيا وبين الآخرة، ودار البرزخ حياة في الواقع، ولكن الله أعلم بها فلا نعلم حقيقتها، فبعض الناس تكون حياته في البرزخ أكمل من حياته في هذه الدنيا، كحياة الأنبياء، فالأنبياء حياتهم أكمل من حياتهم في هذه الدنيا بغير شك، بل الشهداء الله جل وعلا أخبر أنهم أحياء، وأنهم عند ربهم يرزقون، ونهانا أن نسميهم أمواتاً، حيث قال سبحانه: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} [البقرة:١٥٤] يعني: ما نشعر، وما نعرف حقيقة حياتهم، حقيقة حياتهم الله أعلم بها.

وليست هذه الحياة حياة روح فقط؛ لأن حياة الروح للمؤمن والكافر، للبر والفاجر، فالروح لا تموت، كلنا مشتركون في حياة الروح، ولكن حياة الشهداء والأنبياء حياة روح وبدن، وإن كان البدن قد يتفكك، والعظام نراها بالية، وقد تكون تراباً، ولكنها حية في الواقع حياة ما نعرفها نحن.

وقد يتنعم وهو في قبره على هذه؛ لأن هذا من أمور الغيب وأمور الآخرة، وأمور الآخرة كلها غيب، ثم بعد ذلك مدة طويلة، ويكون في قبره إذا بعث، ومنهم من يقول: {مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا} [يس:٥٢].

يعني: كأنه مضى وقت قصير جداً.

ولهذا يتساءلون فيما بينهم إذا حشروا، يقولون: كم لبثتم؟ فبعضهم يقول: لبثنا يوماً، وبعضهم يقول: بعض يوم، وبعضهم يقول: لبثنا ساعة، كل الدنيا وما مر منها كأنه ساعة، فهل هذا كذب؟! هل يقولون وهم يكذبون؟! لا، وإنما هذا الذي أوصلهم إليه فكرهم ونظرهم وواقعهم الذي هم فيه.

فالله جل وعلا يقول: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} [يونس:٤٥] فقط يتعارفون، يعني: يعرف بعضهم بعضاً ثم ينتهون.

فإذا كان الأمر هكذا فيجب على العبد أن يعمل ويحسن الظن بربه جل وعلا، ويعلم أنه هو محل الظن السيئ؛ لأن نفسه مركبة من الجهل ومن الظلم، فالإنسان جهول وظلوم، وإذا اجتمع جهل وظلم ماذا يكون؟ يكون الشر كله، وهذه هي طبيعة النفوس كلها، كل نفوس بني آدم ركبت من الجهل والظلم، ولكن الله يمن على من يشاء فتتهذب نفوسهم بالوحي، بأوامر الله، وبما يأتي به الرسل من الله جل وعلا، تتهذب وتتخلق بأخلاق الملائكة، وقد يكون التخلق قليلاً وقد يكون كثيراً بحسب التأثر.

فيجب على العبد أن يكون ظنه بنفسه ظن السوء؛ لأن النفس أمارة بالسوء، وتحب الباطل وتحب خلاف الحق.

والحق عند غالب النفوس ثقيل، ولهذا يصف العلماء الحق بأنه مر، فيجب أن يعمل الحق وإن كان مراً؛ لأن الله جل وعلا أمر به فيجب أن يمتثل، ولكن إذا وطن الإنسان نفسه على أمر الله، تصبح في الواقع حياته سعيدة، فكونه يعمل بطاعة الله يجد أنه أحلى من الشهوات التي ينالها من الدنيا، ولا مناسبة بينها، فهو بهذا يجد حلاوة الإيمان وحلاوة الطاعة، ويكون في طمأنينة وفي سعادة، ويزداد كل يوم خيراً، وهو يفرح بلقاء الله جل وعلا، ويكون مشتاقاً إلى ذلك، فإنه لما حضرت الوفاة بلال بن رباح رضي الله عنه صارت زوجته تقول: وا كرباه، وهو يقول: (وا قرباه، غداً ألقى الأحبة محمداً وحزبه) فالمؤمن في سعادة، وإن كان أهله والذين حوله يرون أنه في شقاء وفي كرب، والواقع أنه ليس في كرب، سعادة تغمره حتى تنسيه ألم المرض وكرب الموت، وهكذا قبل ذلك وإن ناله ما ناله من الدنيا؛ لأنه يعرف أنه مسافر إلى الله، مثلما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (مالي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب قال تحت ظل دوحة ثم سار وتركها).

يعني: إنما أنا كمن أدركته القيلولة فارتاح قليلاً تحت شجرة ثم سار، هذا مثله في الدنيا، فمثل هذا هل يركن إليها؟ وهل يطمئن بها؟ المسافر إذا كان مسافراً في بلد من البلاد تجده يعد العدة للرجوع إلى أهله وإلى وطنه، فهكذا العبد في هذه الدنيا، وكثيراً ما يضرب الرسول صلى الله عليه وسلم الأمثال لهذا، كما ضرب الله جل وعلا الأمثال فيها، ومن الأمثال البليغة المطابقة تماماً لحالتنا ما قاله صلى الله عليه وسلم: (إنما مثلي ومثلكم كمثل قوم سلكوا طريقاً، فلما صاروا في وسطه، لا يدرون ما مضى أكثر أو ما بقي أكثر، انتهى زادهم وماؤهم وانقطع ظهرهم)، يعني: لا مركوب ولا مأكول ولا مشروب، فما حالتهم؟ أيقنوا بالموت هنا (بينما هم كذلك ينتظرون الموت إذ طلع عليهم رجل يقطر رأسه ماء، فقالوا: إن هذا حديث عهد بماء، فقال: ما شأنكم؟ فقالوا: كما ترى ننتظر الموت، فقال: أرأيتم إن دللتكم على ماء روي ورياض خضراء أتطيعونني؟ قالوا: نعم ولا نعصي لك أمراً، فقال: عهودكم -يعني: أعطوني العهود والمواثيق على ذلك- فأعطوه ما شاء من عهود ومواثيق، فسار بهم إلى مياه كثيرة ورياض خضراء، فبقوا فيها يشربون ويأكلون، فبينما هم كذلك إذ صاح بهم: الرحيل، فقالوا: إلى أين؟ فقال: إلى رياض هي خير من هذه الرياض، ومياه أعذب من هذه المياه وأفضل، فقال أكثرهم: والله ما وصلنا إلى هذه الرياض وهذا الماء ونحن نصدق أننا ننجوا فأبوا أن يطيعوه، وأطاعه قليل منهم فنجا بهم ونجوا، وتخلف أكثرهم فصبحهم العدو، فأصبحوا ما بين قتيل وأسير).

فهذا هو مثل الرسول صلى الله عليه وسلم ومثلنا، فالذي يطيع الله ورسوله ويفعل الواجبات ويجتنب المحرمات ينجو ويكون في عيشة هنيئة، والذي يعصيه وإن رأى أنه في عيشة طيبة فهو في الواقع في عيشة ضنك، وإذا كان يوم القيامة تتضاعف هـ