للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[قصة وفاة أبي طالب]

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وفي الصحيح عن ابن المسيَّب عن أبيه].

هو ابن المسيَّب ويقال: ابن المسيِّب، وكان يقول: سيَّب الله من سيَّبني، فلهذا يقول العلماء: ابن المسيِّب ليتجنبوا دعوته؛ لأنه ما كان يرضى بهذا الاسم.

[قال: (لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل فقال له: يا عم! قل: (لا إله إلَّا الله) كلمة أحاج لك بها عند الله، فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟! فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم فأعادا، فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: (لا إله إلَّا الله)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لأستغفرن لك ما لم أنه عنك، فأنزل الله عزَّ وجلَّ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى} [التوبة:١١٣]، وأنزل الله في أبي طالب: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:٥٦])].

أما سعيد رحمه الله فهو تابعي وأحد الفقهاء السبعة، بل قال ابن المديني: لا أعلم في التابعين أوسع علماً منه.

وأبوه مسيَّب بن حُزن صحابي، وجده كذلك حُزن صحابي قتل في وقعة اليمامة شهيداً، وأبوه هو الذي روى هذا الحديث، ويجوز أنه كان حاضراً عند أبي طالب، أما قول بعضهم: إن هذا من مراسيل الصحابة فليس صحيحاً.

وأبو جهل اسمه: الحكم بن هشام؛ ولكن سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبا جهل، وكذلك عبد الله بن أبي أمية، وكلاهما مخزومي، وكذلك المسيَّب من بني مخزوم، فيجوز أنه كان حاضراً هذه القصة.

ومعنى قوله: (لما حضرت أبا طالب الوفاة) يعني: لما قَرُب من الموت، وتبينت فيه علاماته، والإنسان يتبين قُرْب الموت منه، وكل الناس يعرفون هذا، وعند ذلك أتاه الرسول صلى الله عليه وسلم وكان عنده هذان الرجلان: أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية، فقال له: (يا عم)، وهذا الكلمة (يا عم) أراد بها الاستعطاف لعله يقبل هذه الكلمة، فهو يجتهد في ذلك، فقال: قل: (لا إله إلَّا الله)، ومن المعلوم أن العرب يعرفون معنى (لا إله إلَّا الله)، وأن معناها: حصر التألُّه والعبادة في الله وحده، وألَّا يُجعل منها شيء لغيره، فنظر إليه وكاد أن يقولها، فمنعه جلساء السوء أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية، وإن كان عبد الله أسلم فيما بعد، ومات أبو جهل كافراً، وقد قُتل في وقعة بدر كافراً.

أما المسيَّب فإنه أسلم هو وأبوه كما عرفنا، فلما قال له الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الكلمة نظر إليه وكاد أن يقولها؛ ولكن حكمةَ الله يريده ألا يؤمن، فقالا له: (أترغب عن ملة عبد المطلب؟!) وهذا يدلنا على أمور، منها: أنهم يعرفون معنى (لا إله إلَّا الله)، وأن الإنسان إذا قالها خرج بها عن ملة عبد المطلب التي هي ملة الشرك إلى ملة محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، وصار مسلماً بهذه الكلمة.

وكذلك فيه مضرة تعظيم الأسلاف والكبراء، ومضرة التقليد، إذ إنه منعه الإيمان! فلما قالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟! أحجم وسكت، فأعاد عليه الرسول صلى الله عليه وسلم قوله: (يا عم! قل: (لا إله إلَّا الله) كلمةً أحاج لك بها عند الله)، فأعادا عليه الكلمة فقط: أترغب عن ملة عبد المطلب؟! ثم قال: هو على ملة عبد المطلب)، وكلمة (هو) هذه غيَّرها الرواي؛ لأنه استبشع واستقبح أن يقول: أنا على ملة عبد المطلب، وقد جاء في مسند الإمام أحمد بهذا اللفظ: (أنا على ملة عبد المطلب)، فمات على ذلك.

يقول الحافظ: من أحسن الأمور: كون الإنسان يغير الكلمة التي إذا رويت كما هي كانت بشعة قبيحة، فيغيرها ويصرفها إلى ما هو حسن طيب؛ لأن المعنى مفهوم وواضح.

وهذا يدلنا على أن الأعمال بالخواتيم، وأنه لو قال هذه الكلمة في تلك الحال لنفعته؛ ولَحُكِم له بالإسلام، ومن المعلوم أن الناس في مكة في ذلك الوقت قسمان فقط، ليس فيهم منافق؛ لأن المسلمين مستضعفون، والكفار هم الذين لهم الكلمة، وهم الذين لهم الدولة ولهم البلد، ومن أسلم من أبنائهم وإخوتهم عذبوه وأرهبوه، إلَّا أن يفر أو تكون له قوة أو قبيلة تحميه، وكثير منهم عُذِّب وقُتِل تحت التعذيب لأجل أنه أسلم! فلهذا لم يوجد فيهم في العهد المكي منافق، وإنما النفاق وُجِد في المدينة لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم مهاجراً، وصار له أنصار وقوة، وكان في المدينة خليط من المؤمنين والمشركين واليهود، واليهود كانوا كثيرين، وهم قبائل ثلاث كما هو معروف: بنو قينقاع.

وبنو النضير.

وبنو قريظة.

وكل قبيلة تزعم أنها هي القوية.

فلما وقعت غزوة بدر، وانتصر المسلمون فيها، بدأ النفاق عندما ظهرت قوة الرسول صلى الله عليه وسلم وقوة المؤمنين، والإنسان إذا قال: (لا إله إلَّا الله) حُكم له بالإسلام ظاهراً، فإن كان قد عَرف معناها -معنى هذه الكلمة- وعمل بمعناها في نفسه وما دلت عليه؛ فهو مسلم ظاهراً وباطناً، أما إذا قالها بلسانه فقط، وهو في قلبه منكر لمعناها فهذا هو المنافق، ويكون حكمه حكم المسلمين في الظاهر، وأما في الباطن فهو من أهل الكفر ومن أهل النار، بل هو تحت الكافرين في الدرك الأسفل من النار؛ لأنه قدم خشية الناس على خشية الله، وجعل خوف الناس أعظم من خوف الله عنده، وأما في هذه الحال فلا يمكن للإنسان إلَّا أن يعتبر معرفة المعنى فقط، ويعتقده بقلبه؛ لأنه لا يمكنه العمل عند قُرْب الموت، فيشترط فقط أن يعرف المعنى، ويعتقده بقلبه، ولا يلزم أن يعمل؛ لأنه لا يستطيع العمل، فقد انتهت القضية.

فإذا مات الإنسان قائلاً لهذه الكلمة عارفاً لمعناها فإنه يُحكم له بالإسلام كما هو ظاهر هذا الحديث، ولهذا قال: (كلمةً أحاج لك لها عند الله) يعني: قل: (لا إله إلَّا الله) وهذه الكلمة هي كلمة الإيمان.