للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[وجوب إحسان الظن بالله في حكمه وعدله وأموره كلها]

[باب قول الله تعالى: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران:١٥٤] الآية، وهذه الآية ذكرها الله تعالى في سياق قوله تعالى في ذكر وقعة أحد: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ} [آل عمران:١٥٤] يعني: أهل الإيمان والثبات والتوكل الصادق، وهم الجازمون بأن الله تعالى ينصر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وينجز له مأموله، ولهذا قال: {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} [آل عمران:١٥٤] يعني: لا يغشاهم النعاس من الجزع والقلق والخوف، {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران:١٥٤]، كما قال تعالى: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا} [الفتح:١٢].

وهكذا هؤلاء اعتقدوا أن المشركين لما ظهروا تلك الساعة ظنوا أنها الفيصلة، وأن الإسلام قد باد وأهله، وهذا شأن أهل الريب والشك، إذا حصل أمر من الأمور الفظيعة تحصل لهم هذه الأمور الشنيعة.

عن ابن جريج قال: قيل لـ عبد الله بن أبي: قتل بنو الخزرج اليوم، قال: وهل لنا من الأمر من شيء؟ قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في الكلام على ما تضمنته وقعة أحد: وقد فسر هذا الظن الذي لا يليق بالله سبحانه بأنه لا ينصر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وأن أمره سيضمحل، وأنه يسلمه للقتل.

وفسر بظنهم أن ما أصابهم لم يكن بقضاء الله وقدره ولا حكمة له فيه، ففسر بإنكار الحكمة، وإنكار القدر، وإنكار أن يتم أمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وأن يظهره على الدين كله.

هذا هو ظن السوء الذي ظنه المنافقون والمشركون في سورة الفتح، حيث يقول: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [الفتح:٦]].

من ظن بأحكام الله جل وعلا وأوامره أنها غير عدل، وأنها غير حكيمة، فهو يظن بالله ظن السوء، فالذي يتضجر من حكم شرعي أقيم عليه، أو يرى أن غير حكم الشرع أحسن منه وأنه أكمل وأتم للإنسان الذي يكون هو أرقى المخلوقات، ويرى أنه لا يليق بالإنسان أن تقطع يده، أو أن يرجم إذا زنى وهو محصن، أو أن يكون الرجل أكثر إرثاً من المرأة، أو أن يكون الرجل عنده زوجتين أو ثلاثاً أو أربعاً، وأن هذا غير عدل، الذي يظن مثل هذا يكون ظن بالله ظن السوء.

[قال ابن القيم رحمه الله في الآية الأولى: فسر هذا الظن بأنه سبحانه لا ينصر رسوله، وأن أمره سيضمحل، وفسر بأن ما أصابه لم يكن بقدر الله وحكمته، وفسر بإنكار الحكمة، وإنكار القدر، وإنكار أن يتم أمر رسوله، وأن يظهره الله على الدين كله، وهذا هو ظن السوء الذي ظنه المنافقون والمشركون في سورة الفتح، وإنما كان هذا ظن السوء لأنه ظن غير ما يليق به سبحانه وما يليق بحكمته وحمده ووعده الصادق.

فمن ظن أنه يديل الباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها الحق، أو أنكر أن يكون ما جرى بقضائه وقدره، أو أنكر أن يكون قدره لحكمة بالغة يستحق عليها الحمد، بل زعم أن ذلك لمشيئة مجردة فذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا، فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ.

وأكثر الناس يظنون بالله ظن السوء فيما يختص بهم، وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله وأسماءه وصفاته، وموجب حكمته وحمده.

فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا، وليتب إلى الله وليستغفره من ظنه بربه ظن السوء، ولو فتشت من فتشت لرأيت عنده تعنتاً على القدر وملامة له، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمستقل ومستكثر وفتش نفسك هل أنت سالم؟ فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة وإلا فإني لا إخالك ناجياً].

الواجب على العبد أن يعرف ربه جملة إذا أمكن ذلك، وأن يظن به الظن الحسن، وأن يحسن الظن بالله، فإحسان الظن من الإيمان، لهذا جاء الأمر به: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه)، وفي الحديث القدسي يقول الله جل وعلا: (أنا عند ظن عبدي بي، فمن ظن خيراً وجده، ومن ظن شراً وجده)، وليس معنى ذلك أن الإنسان يسيء ويعصي ويترك الواجبات، ثم يقول: أنا أظن بالله جل وعلا ظناً حسناً!! والله عز وجل يضع الأشياء في مواضعها؛ لأنه حكيم تعالى وتقدس، فكل ما صدر عن الله جل وعلا فهو خير، وأما هذا فإنه فسر بالشيء الخاص، كما ذكر: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران:١٥٤]، وكذلك: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} [الفتح:٦]، والسوء جاء تفسيره في الآية الأخرى التي بعدها حيث قال: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا} [الفتح:١٢]، فظنهم ظن السوء في هذه الآية فسر بأنهم ظنوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه يقتلون، وأن الكفار ينتصرون، وأن الحق الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ينتهي أمره ويزول، هذا ظن السوء بالله جل وعلا.