للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الإيمان بالقدر]

[المسألة الثالثة والعشرون: الإيمان بالقدر لحصولها لمن لم يسع لها ومنعها عمن يسعى].

الإيمان بالقدر من أركان الدين الإسلامي، لا بد منه، والقدر هو عبارة عن قدرة الله جل وعلا، وهو في الواقع علم الله وقدرته وفعله، هذا هو القدر، وليس القدر إرغام الإنسان أن يفعل شيئاً وهو لا يريده كما يتصوره بعض الجهلة، وربما ترك العمل أو رضي بالمعاصي وأقام عليها، ثم يصبح يحتج بالقدر ويقول: هذا قدر.

وهذا لا يجوز.

الله جل وعلا ذم الذين احتجوا على شركهم بالقدر، الذين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام:١٤٨]، وأخبر أن هذا معارضة لشرع الله بقدره، فهم يقولون: إن مشيئة الله شاملة، فهو الذي جعلنا مشركين، ولو شاء لجعلنا موحدين، فنحن نرضى بمشيئته التي شاءها لنا.

فهذا الإنسان يعاند الله جل وعلا، مثل قول الشيطان لما أمر الله جل وعلا أن يسجد لآدم: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:١٢] أبى أن يسجد لآدم، لماذا؟ لأنه يرى أن رأيه أفضل مما يقوله الله جل وعلا ويأمر به، عناد ومكابرة واعتراض على الله جل وعلا، وكذلك الذي لا يؤمن بالقدر وينفي القدر -والقدر قدرة الله- أو يكفر به، وإن أقر بأن الله قدره لا يمتثل لذلك ولا يؤمن به، وكله شر.

والواجب على المسلم أن يجتهد في الشيء الذي ينفعه، سواءٌ أكان أمراً شرعياً، أم أمراً عادياً مما يخصه في معيشته وعمله، فيفعل السبب المشروع الذي شرعه الله له، فإن تخلف مراده ولم يحصل له مراده فلا يصبح يلوم نفسه، أو يلوم الأيام، أو يلوم الآخرين، وربما يغضب ويقول: فلان السبب، وفلان السبب، ولولا كذا لصار كذا.

عليه أن يعلم أن هذا هو الذي قدر، فيسلم للقدر، ويقول: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، لو شاء الله لكان ذلك.

كما جاء في حديث أنس يقول: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنوات، وما سمعته يقول لي لشيء لم أصنعه: لمَ لم تصنع هذا؟ ولا لشيء صنعته: لمَ صنعت هذا؟! وإنما إذا تخلف الشيء الذي يريده قال: (ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وليس معنى هذا أن الإنسان يترك العمل، لا.

بل يعمل، ولكن يكون حسب ما أراد الله جل وعلا له وأراده منه رسوله صلوات الله وسلامه عليه، كما قال: (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، فإن أصابك ما تكره فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن (لو) تفتح عمل الشيطان)، وعمل الشيطان هو التأسف على الفائت، وكذلك من لوم القدر التحسر عليه، والشيء الذي وقع لا يمكن رده ولا يمكن استدراكه، والشيء الذي قدره الله لا بد منه، وفي وصيته صلى الله عليه وسلم لابن عمه عبد الله بن عباس يقول: (واعلم أن الناس لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لك لم ينفعوك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يضروك، رفعت الأقلام وجفت الصحف).

فالقدر ركن من أركان الإيمان يجب الإيمان به، وهو عبارة عن كون الإنسان يؤمن بأن الله علم كل شيء قبل وجوده، فعلمه محيط بكل شيء، علم الأشياء في الأزل قبل وجودها، ثم كتبها، فكل ما يقع مكتوب في كتاب محفوظ عند الله، ثم هو الذي شاء وجودها وخلقها.

والقدر عبارة عن هذه الأمور: علم الله وقدرته ومشيئته، وكتابته التي لا يمكن أن تتخلف، وليس معنى هذا أن هذا العبد يكون مجبوراً على ذلك، بل العبد ما يدري ما كتب عليه، وما له علم بهذا، وقد أمر بالاجتهاد، فإن ترك العمل وترك الأسباب فهو الملوم واللوم عليه، وإن فعل الأسباب واجتهد فيها فلا لوم عليه، والشيء الذي يفوته ولم يفرط فيه يكون مأجوراً عليه، وإذا انضاف إلى ذلك الرضا بالقدر والتسليم فإنه يزداد أيضاً أجراً على هذا، {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:١١] يعني: يؤمن بأن هذه المصيبة من عند الله ويسلم وينقاد لذلك ولا يعترض، فيزيده الله هداية في قلبه.

ولوم القدر لا يجدي شيئاً، وإنما يزيد الإنسان تحسراً، ويزيده أيضاً خسارة وإثماً بذلك، ولا يضر الله شيئاً، فإنه -مثلاً- لو أصيب الإنسان بمصيبة فمات ابنه أو أبوه أو أخوه أو زوجته أو قريبه، وصار يخمش وجهه ويشق ثوبه ويلطم أو يلعن أو يتأسف هل يفيده ذلك شيء؟ هل يرد عليه الفائت؟ بل يكون قد عصى الله، وإذا صبر واحتسب وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها.

فإنه يكون راضياً بهذا ويثيبه الله ويخلف عليه، ويكون حصل على الخير، ويفوته ما أراده الشيطان منه، الشيطان يريد أن يخرجه عن طاعة الله، بخلاف ما إذا فعل كفعل الجهلة، فإنه يأثم ولا يحصل له شيء من الفائت، فالفائت فات.

ثم الأوامر التي يؤمر بها الإنسان مثل الصلاة وترك المعصية لا يجوز للإنسان أن يحتج على فعل المعصية أو ترك الطاعة بأن يقول: هذا قدر! لأن هذا عناد ومعاندة، أنت أمرت بهذا الفعل فامتثل، ولا تتركه وتقول: قدر.

وما يدريك أنه قدر قبل أن يقع؟! ولكن قولك: قدر معناه المعاندة وتبرئة نفسك، أي أنك تريد أن تبرر فعلك، وتجعل اللوم على الله، هذا هو الواقع، أنه يجعل اللوم على الله؛ لأنه هو الذي قدر هذا، وهذا يكون محاجة لله، بل مخاصمة، ولهذا الذين يحتجون بالقدر هم خصوم الله جل وعلا.

والإيمان بالقدر يكتسب به العبد زيادة إيمان وطمأنينة، وكذلك يكتسب به أيضاً صلة بالله، ويزداد خيراً، وربما خلف عليه أفضل مما أخذ، جاء في الصحيح أن أم سلمة لما توفي زوجها، وكانت قد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من أصيب بمصيبة فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها إلا آجره الله وخلف عليه خيراً منها) قالت: لما توفي أبو سلمة قلت هذا الذي سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قلت لنفسي: وأي أحد خير من أبي سلمة؟! لن أجد أحداً خيراً من أبي سلمة فجاءها من هو خير منه، جاءها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فهكذا الإنسان إذا امتثل أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ورضي حصل له الأجر، وحصل له الخير العاجل مع الآجل، بخلاف ما إذا تسخط ذلك وأبى قبوله فإنه يحصل له الوزر ولا يحصل على شيء من مطلوبه.

ثم إن هذا يكون عند أول الأمر، أما إذا تمادى الأمر فإن الإنسان يسلو كما تسلوا البهائم، يمر يوم ويومان وثلاثة أيام ثم ينسى مصيبته، مر الرسول صلى الله عليه وسلم على امرأة تبكي وعلم أنها تبكي على فقد ولدها، فقال: (اتقي الله واصبري)، فلم ترض بهذا، وقالت: إليك عني؛ إنك لم تصب بمصيبتي.

وهي ما عرفت الرسول صلى الله عليه وسلم، فتركها صلوات الله وسلامه عليه، ثم قيل لها: إن هذا الذي كلمك هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فندمت على هذا وجاءت إليه وقالت: يا رسول الله! أصبر.

فقال: (إنما الصبر عند الصدمة الأولى)، أما إذا مضى الوقت فإن الإنسان ينسى شيئاً فشيئاً، ثم يسلو كما تسلوا البهائم، البهيمة إذا فقدت ولدها صارت تصيح عليه ثم تخف شيئاً فشيئاً، والإنسان مثل ذلك، فيصبح مأزوراً غير مأجور، ولا اعتاض شيئاً مما فقد.

فالعاقل يجب عليه أن يتميز، لا سيما المؤمن يجب أن يتميز عن غيره، وأن يعلم أنه يصاب بما وقع له، وينبغي للمؤمن إذا أصابته مصيبة أن يتذكر مصيبته برسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي فوق جميع المصائب فيتسلى بذلك.