[الأدلة على عدم جواز التبرك بآثار الصالحين]
قال الشارح رحمه الله: [وأما ما ادعاه بعض المتأخرين من أنه يجوز التبرك بآثار الصالحين فممنوع من وجوه: منها: أن السابقين الأولين من الصحابة ومن بعدهم لم يكونوا يفعلون ذلك مع غير النبي صلى الله عليه وسلم، لا في حياته ولا بعد موته، ولو كان خيراً لسبقونا إليه، وأفضل الصحابة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، وقد شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن شهد له بالجنة، وما فعله أحد من الصحابة والتابعين مع أحد من هؤلاء السادة، ولا فعله التابعون مع ساداتهم في العلم والدين وأهل الأسوة، فلا يجوز أن يقاس على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد من الأمة، وللنبي صلى الله عليه وسلم في حال الحياة خصائص كثيرة لا يصلح أن يشاركه فيها غيره.
ومنها: أن في المنع عن ذلك سداً لذريعة الشرك كما لا يخفى].
يقول بعض المتأخرين مثل الإمام النووي رحمه الله وغيره: قد جاءت بعض الأحاديث التي فيها أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يوزع شعره على صحابته للتبرك به، وكذلك كان إذا توضأ سارعوا إلى فضلة وضوئه يتبركون بها، وإذا تفل أو تنخم صلوات الله وسلامه عليه أحب كل واحد منهم أن تكون بيده حتى يدلك بها وجهه؛ تبركاً به صلوات الله وسلامه عليه، وكذلك إذا أمكن أحدهم أن يأخذ شيئاً من ثيابه التي تلي جسده أخذها، وبعض الصحابيات التي لها صلة بالرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا عرق تأخذ عرقه وتضعه في الطيب؛ لأن عرقه صلوات الله وسلامه عليه أحسن من الطيب، والمقصود أن هذا شيء مشهور ومعروف، فكانوا إذا جاءوا إلى مثل هذه القضايا قالوا: هذا فيه جواز التبرك بالصالحين وبآثارهم، والمؤلف هنا يقول: هذا خطأ من وجوه: الوجه الأول: أن هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، بدليل أن الصحابة رضوان الله عليهم لم يفعلوا هذا مع أحد منهم، فما فعلوه مع أبي بكر ولا مع عمر ولا مع عثمان ولا مع علي، ولا مع غيرهم من سادات الصحابة، وهم أعلم برسول صلى الله عليه وسلم وبما أنزل عليه، ولو كان خيراً لسبقونا إليه.
الوجه الثاني: أنه لا يجوز أن يقاس غير الرسول صلى الله عليه وسلم عليه، وهذا لا يقول به من يعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز أن يقاس آحاد الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا، بل ولا يجوز أن يدان به، وهذا قياس مع الفارق البعيد جداً، فإذا جاء القياس مع الفارق فهو قياس باطل غير معتبر شرعاً.
الوجه الثالث: أن هذا فيه سد للذرائع كما قال المؤلف، وهي قاعدة معروفة في الشرع، والمعنى: أننا لو أجزنا ذلك لجر هذا إلى ما لا يجوز، ولصار طريقاً إلى الشرك وإلى سؤاله والتوسل به، وما أشبه ذلك، وكل ما كان وسيلة إلى ما هو محرم فممنوع.
وهناك أيضاً وجه رابع لم يذكره المؤلف وهو: أن الصلاح أمر لا يعرف إلا من قبل الوحي؛ لأنه في القلب وليس للإنسان إلا الظاهر، فيجوز أن يكون في الباطن غير ما هو في الظاهر، ويجوز أن يتبدل في آخر حياته ويتغير، بخلاف الذين أخبر الله جل وعلا -كالصحابة- أنه رضي عنهم؛ فإن الله لا يخبر جل وعلا عن شيء يتبدل ويتغير.
فإذا قال قائل: هذا من التبرك بالصالحين قلنا: هذا أمر مظنون غير متيقن، وإنما هو من باب الظن، وباب الظن لا يجوز أن تبنى عليه الأحكام في مثل هذا، إلى غير ذلك من الأوجه التي تمنع ذلك، وكل وجه من هذه الأوجه يكفي في منع ذلك.
والخلاصة: أن التبرك بالآثار ومماسة الجسد وما أشبه ذلك خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو من خصائصه لا يجوز أن يقاس عليه أحد من الناس.
وأما والذين استدلوا بفعل ابن عمر، ففعل ابن عمر كان اتباع آثار الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس من هذا الباب، وإنما هو اتباع آثاره، يعني: كان يتتبع الأثر الذي صلى فيه الرسول فيصلي فيه، والمكان الذي جلس فيه فيجلس فيه، وما أشبه ذلك؛ لأنه كان يرى أن هذا سنة، وأنه اتباع للرسول صلى الله عليه وسلم، فليس من باب التبرك، وإنما الكلام في التبرك بما لامس جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو انفصل عنه، وهذا شيء معروف عند الصحابة رضوان الله عليهم حتى أنه جاءت الأحاديث فيه إلى حد التواتر.