[حديث عبادة بن الصامت في بيان فضل التوحيد]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل) أخرجاه].
عبادة بن الصامت رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من شهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل).
فقوله: (من شهد أن لا إله إلا الله) الشهادة معناها: أن ينطق بالشيء الذي يعلمه علماً يقينياً.
وشهادة أن لا إله إلا الله تتضمن العمل بعد اليقين والمعرفة، وكذلك تتضمن التسليم والانقياد، التسليم للشرع والانقياد له، والكفار الذين كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعوهم بهذه الكلمة كانوا يعرفون معناها، ولهذا لما قال لهم: قولوا: (لا إله إلا الله) قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص:٥]، ويقول جل وعلا في الآية الأخرى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات:٣٥ - ٣٦] يعني: علموا أنهم إذا قالوا هذه الكلمة فلابد أن يتركوا آلهتهم، والإله هو المعبود الذي يألهه القلب ويحبه وينيب إليه ويخافه ويرجوه، فالمحبة التي تكون محبة غيبية لابد أن تكون لله جل وعلا، وهي التي يسميها بعض الناس (محبة السر)، أي: أنه يعلم ما في سرك هذا الذي تحبه أو تخافه فهذا لا يكون إلا لله جل وعلا، فيجب أن يكون لله، فهذه الكلمة هي التي يدخل بها الإنسان في الدين الإسلامي، وهي التي بني عليها الدين كله؛ لأن معناها أن يكون الدين خالصاً لله جل وعلا.
فقوله: (لا إله) نفي الإلهية، وقوله: (إلا الله) إثباتها لله جل وعلا، ومعلوم أن الآلهة في الأرض كثيرة جداً قديماً وحديثاً، والإنسان خلق عابداً، إذا لم يعبد ربه جل وعلا لابد أن يعبد غيره، فيعبد الشيطان أو يعبد شهواته أو يعبد المظاهر الأخرى، أو قد يعبد الدنيا، وقد يعبد ماله، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم)، فسماه عبداً للدينار والدرهم، وذلك لأنه يؤثر الدينار والدرهم على طاعة الله جل وعلا وعلى مرضاته فصار عبداً له، وليس معنى كونه عبداً له أنه يسجد له ويركع له، بل كونه يقدمه على محاب الله جل وعلا ومرضاته يكفي في ذلك.
ثم إنه يجب على العبد أن يعرف معنى هذه الكلمة: (شهادة ألا إله إلا الله) يعرف أن معناها إبطال كل معبود غير الله جل وعلا، وإثبات العبادة له وحده، ثم إنه لابد أن يحب ما دلت عليه هذه الكلمة، ويرتبط به، ويرى أن منة الله جل وعلا عليه فيها -حيث هداه- هي أكبر من كل شيء، فيشكر ربه جل وعلا ويتمسك بهذه الكلمة، ويحبها ويحب أهلها، ويعمل بمقتضاها، فمن شهد الشهادة الحقة، وسلم من الشك والريب، وكذلك أخلص عبادته حسب ما تضمنته هذه الكلمة ودلت عليه فإنه يكون من المخلصين، ويكون من السعداء، ويكون من السابقين، وهذه الكلمة تكفر جميع الذنوب، إذا قالها صادقاً مخلصاً فإنها تكفر الذنوب مهما كانت، حتى الذنوب العظيمة التي هي الشرك؛ لأن هذا هو الإخلاص.
أي: قول: لا إله إلا الله هو إخلاص التوحيد لله، فهو يخبر بلسانه، ولابد أن يعمل بقلبه مخلصاً لله جل وعلا، ويعمل بجوارحه مخلصاً لله جل وعلا، ثم العمل يكون تبعاً لذلك.
وقوله: (وأن محمداً رسول الله) يعني: يشهد له بالرسالة.
ومعنى شهادته له بالرسالة علمه اليقيني بأنه رسول من عند الله جل وعلا جاء بالشرع من الله جل وعلا، وأنه لا يعبد الله جل وعلا إلا بما جاء به هذا الرسول صلوات الله وسلامه عليه، فيعبد الله باتباعه، ويحبه الحب الذي أوجبه الله جل وعلا له؛ لأن الله جل وعلا أوجب محبة رسوله صلى الله عليه وسلم أكثر من محبة الإنسان لنفسه ولأهله وولده، ولابد من هذا، ولكن يجب أن يفرق الإنسان بين محبة الله جل وعلا ومحبة رسوله؛ لأن محبة الله جل وعلا محبة عبادة وذل وخضوع، أما محبة الرسول صلى الله عليه وسلم فهي محبة تابعة لمحبة الله؛ لأن الله يحبه، ولأن الله أمر بحبه فهي محبة لله وفي الله، وليست محبة مع الله؛ لأن المحبة مع الله شرك، كما قال جل وعلا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:١٦٥]، وكذلك قال جل وعلا في الآية الأخرى مخبراً عن أهل الجحيم أنهم يعود بعضهم على بعضاً باللوم ويلوم بعضهم بعضا وهم في النار: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:٩٧ - ٩٨] يعني: يسوونهم برب العالمين في المحبة، يحبونهم كما يحبون الله.
وإلا فليس هناك أحد من الخلق سوَّى مخلوقاً برب العالمين في الخلق والإيجاد والتصرف.
قوله: (وأن عيسى عبد الله ورسوله)، وذلك أن عيسى ضل فيه من كان قبلنا من اليهود والنصارى إلا من شاء الله ممن هداهم إلى صراطه المستقيم، فالنصارى اتخذوه إلهاً وجعلوه رب العالمين، أو جعلوه ابن الله -تعالى الله وتقدس-، أو جعلوه ثالث ثلاثة، كما ذكر الله جل وعلا ذلك عنهم في كتابه، وهذا كله كفر، أما اليهود فجفوا في حقه حتى زعموا أنه ابن زانية -لعنهم الله-، فهدى الله جل وعلا عباده إلى الحق، وبين الحق فيه، كما قال جل وعلا: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} [مريم:٢٩] أي: لما جاءت به تحمله إلى قومها: {قَالُوا يَا مَرْيَمُ} [مريم:٢٧] يعني: ينكرون عليها {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} [مريم:٢٨ - ٢٩]، يعني: قالت: كلموه، فقالوا: {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ ?وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي} [مريم:٢٩ - ٣٢] إلى آخر ما ذكر الله جل وعلا عنه، فأول ما تكلم به أنه قال: ((إني عبد الله))، فهو عبد من عباد الله جل وعلا.
فقوله صلى الله عليه وسلم (وأن عيسى عبد الله ورسوله) يعني: هو عبد تعبده الله جل وعلا بالعبودية وهذه عبودية خاصة، فالعبودية الخاصة هي أشرف مقامات العبد، وإلا فالخلق كلهم عباد لله جل وعلا بمعنى التذليل والتسخير، وأن حكمه جارٍ عليهم رضوا أم سخطوا، ولكن العبودية الخاصة التي يفعلها الإنسان طوعاً ويكمل مراتبها التي أمره الله جل وعلا بها بأن يعبد الله العبادة التي أمره الله جل وعلا بها.
فقوله: (وأن عيسى عبد الله ورسوله) عبد تعبده الله جل وعلا كسائر عباده الذين هم عباد له يعبدونه، وليس له من الإلهية أو الربوبية شيء، وليس لأحد من الخلق لا الملائكة ولا الرسل ولا غيرهم شيء من خصائص الإلهية أو الربوبية، كل مخلوق معبد مسخر، وقد أخبر الله جل وعلا عن الملائكة أنهم عباد مكرمون، وأنهم: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:٦]، {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:٢٩]، وأخبر جل وعلا أن عيسى لا يستنكف عن عبادة الله ولا الملائكة -يعني: لا يتكبر عنها-، وأن من استنكف أو تكبر عن عبادته فموعده جهنم.
وقوله: (وأن عيسى عبد الله ورسوله) يعني: هو رسول أرسله الله جل وعلا إلى بني إسرائيل، فمن آمن به وأطاعه واتبعه فهو السعيد، ومن عصاه وكذبه فهو الشقي، فهو رسول كسائر الرسل الذين أرسلهم الله جل وعلا، إلا أنه جعله آية، حيث خلقه من أنثى بلا ذكر، كما قال جل وعلا: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:٥٩]، والخلق الذين أخبرنا جل وعلا عنهم -أعني خلق آدم وذريته- أقسام أربعة: القسم الأول: من خلقه من طين، وهو أبو البشر كما قص الله جل وعلا ذلك علينا.
القسم الثاني: من خلقه من ذكر بلا أنثى، وهو حواء زوج آدم، خلقها الله جل وعلا من ضلعه الأيسر أو الأيمن، خلقها من ضلعه فجعلها بشراً سوياً من ذكر بلا أنثى.
القسم الثالث: ما ذكره الله جل وعلا عن عيسى أنه خلقه من أنثى بلا ذكر.
القسم الرابع: سائر الخلق خلقهم من ذكر وأنثى، وكل ذلك دليل على تفرده جل وعلا بالتصرف، وأنه على كل شيء قدير، وأنه لا يعجزه شيء، فلابد أن يشهد الإنسان أن عيسى عبد لله جل وعلا تعبده وعبد ربه، وأنه رسول أرسله الله جل وعلا إلى بني إسرائيل ليطيعوه ويتبعوه، وأنه كلمة الله، ومعنى كونه (كلمة الله) أنه خلقه بالكلمة، قال له: (كن) فيكون، كما قال تعالى: {إِنََّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:٥٩]، فهو خلق بالكلمة، ولهذا سماه كلمة الله.
(وروح منه) يعني أنه روح من سائر الأرواح التي خلقها واستنطقها واستشهدها فقال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى.
فهو من الأرواح التي استخرجت من آدم، وأرسلها إلى مريم بواسطة الملك، أرسل إليها جبريل فتمثل لها بشراً سوياً وهي تتعبد متخلية عن أهلها، فقالت: {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا} [مريم:١٨ - ١٩]، فنفخ في جيب درعها فذ