للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الرضا والتسليم بأقدار الله تعالى]

قال المصنف رحمه الله: [وقال: {وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:١٥٥ - ١٥٧].

قوله: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:١١]، أي: من أصابته مصيبة فعلم أنها بقضاء الله وقدره فصبر واحتسب جازاه الله بهدايته قلبه التي هي أصل كل سعادة وخير في الدنيا والآخرة، وقد يخلف الله عليه في الدنيا ما كان أخذه، أو خيراً منه.

قوله: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التغابن:١١]، تنبيه على أن ذلك إنما يصدر عن علمه المتضمن لحكمته؛ وذلك يوجب الصبر والرضا.

قال المصنف رحمه الله تعالى: قال علقمة: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم.

هذا الأثر رواه ابن جرير وابن أبي حاتم، وعلقمة هو ابن قيس بن عبد الله النخعي الكوفي، ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وسمع من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسعد وابن مسعود وعائشة وغيرهم، وهو من كبار التابعين وأجلائهم وعلمائهم وثقاتهم، مات بعد الستين.

قوله: (هو الرجل تصيبه المصيبة إلخ)، هذا الأثر رواه الأعمش عن أبي ظبيان قال: كنا عند علقمة، فقرئ عليه هذه الآية: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:١١]، قال: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم.

هذا سياق ابن جرير وفي هذا دليل على أن الأعمال من مسمى الإيمان.

قال سعيد بن جبير: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:١١]، يعني: يسترجع يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون.

وفي الآية بيان أن الصبر سبب لهداية القلوب، وأنها من ثواب الصابر].

في قول الله جل وعلا: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:١١]، قوله: (ما أصاب من مصيبة) عموم، أي: ما يخرج عنه من شيء صغيراً أو كبيراً، كل مصيبة تقع للإنسان فهي بإذن الله، أي: بمشيئته وإرادته وتقديره، بمعنى: من الإيمان أن يؤمن أنه شيء مقدر، وأنه لا محيد للإنسان عنه، وأن الله جل وعلا قد كتبه قبل وجود هذا المخلوق الذي أصيب بالمصيبة.

وقوله: (فيرضى ويسلم) يعني: يرضى بالمقدر له، والرضا عند كثير من العلماء ليس واجباً، وإنما الواجب التسليم والصبر، أن يسلم ويصبر، دون الرضا، فهذا صعب، كأن يكون الإنسان في مرض أو أصيب بمصائب فيرضى بتلك المصائب، فكونه يلزم بالرضا هذا لا يصل إليه إلا أفذاذ من الناس، ولهذا الذي جاء في النصوص الثواب على الرضي وليس على العمل، بخلاف الصبر فإن الصبر جاء الأمر به، مما يدل على أنه واجب لابد منه، أما كون الإنسان يرضى بالمصيبة فهذه درجة فوق الصبر، وهي درجة لا يصل إليها إلا الكمل من عباد الله جل وعلا.

أما التسليم فكونه لا يعترض ولا يتسخط، بل يعلم أنه ملك لله، وأنه ما أصيب بشيء إلا بذنب اقترفه من جراء ذنوبه، وأن المصيبة رحمةٌ من الله جل وعلا يشكره عليها، حيث إنه يكفر عنه بها من خطاياه، كما سيأتي: (إن الله إذا أراد بعبده خيراً عجل له العقوبة حتى يخفف عنه، وإذا أراد به شراً أخر عنه العقوبة حتى يوافي يوم القيامة بجميع ذنوبه، فيكون جزاؤه في ذلك اليوم).

معلوم أن كل قضية تقع وتنتهي الصبر فيها سهل، ليس كأمر الآخرة، والله جل وعلا لن يرضى أن تكون الدنيا محلاً لعقاب أعدائه، فإنه يؤخرهم، ولن يرضى أن تكون الدنيا محلاً لجزاء أوليائه، بل تصيب منهم ويبتلون، وأشد منهم بلوى الأنبياء، ثم الأمثل، ثم الأمثل، كما جاء نص ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه إذا كان الإنسان في دينه صلابة زيد من بلائه، فلهذا إذا تأمل الإنسان ماذا حدث للرسل ولأولياء الله يتبين له أن المصائب لا يصبر الإنسان عليها فحسب، بل ينبغي أنه إذا أصيب بشيء أن يفرح به؛ لأنه إما عقوبة لذنب معجلة وتنتهي، ويكون كفارة له، أو يجزى عليه الثواب وثواب الله يصل إليه.

وقد اختلف العلماء هل يوجد جزاء في المصائب؟ أم أنها مجرد كفارات لما يقع منه؟ ويكفي أن تكون كفارة.

فكونه يرضى ويسلم أمر قد لا يتحصل عليه، وقد لا يصل إليه أكثر الناس لصعوبته؛ إذ كيف يرضى بالمصيبة؟ لأن الرضا قد يكون مرتبطاً بالشيء الذي هو فيه إما مرض وإما مصيبة أو غير ذلك، ولكن الصبر لابد منه، والتسليم كذلك، وهو أن لا يعترض على القضاء والقدر.