للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[وجه النهي عن سب الريح]

قال الشارح رحمه الله: [قال المصنف رحمه الله تعالى: باب: النهي عن سب الريح].

الريح مدبرة مأمورة مسخرة لله جل وعلا، فإذا سبت الريح وقع السب على من دبرها وأمرها؛ لأن السب هو اللعن والشتم، ويكون السبب ممن تضرر من ذلك غالباً إما بضرب، أو بحر أو بشدة الريح وكونها تلقي شيئاً أو تقلع شجراً أو تهدم بيتاً، أو ما أشبه ذلك.

وسبها محرم لا يجوز ولا يقع ذلك إلا من الجاهل الذي لا يعلم بأفعال الله وأسماء الله وشرعه، وقد سبق ما في سب الدهر من النهي، وهذا مثله، ولكنه ذكر هذا الباب، والنهي جاء فيها خاصاً، وهو داخل فيما سبق من النهي عن سب الدهر؛ لأن كلما هو مدبر لله ومأمور مسخر لا يجوز سبه، والإنسان ما تصيبه مصيبة إلا بسبب ذنبه.

والله جل وعلا قد يبتلي الإنسان بإنسان مثله فيناله منه ضرر، ويكون ذلك بسبب ذنبه، ولكن إذا كان الذي ناله الضرر على يده عاقلاً، فإن العاقل يعاقب؛ لأن فعله كسبه ويلام على ذلك، ومع ذلك لابد أن يكون تقديراً من الله جل وعلا، ويكون بسبب ذنوبه، حتى قال بعض السلف: (إني لأعصي الله جل وعلا فأرى أثر ذلك في خلق زوجتي وولدي ودابتي) يعني: أنه يرى ذلك عقاباً له بسبب ارتكاب المعصية، وهذا يكون لمن يحسون بالمعصية ويحسون بأثرها؛ لأن قلوبهم حية.

أما إذا كثرت الذنوب فقد لا يحس الإنسان بذلك، فلا يدري، فتتراكم الذنوب بعضها على بعض، ويكون أثرها ضعيفاً جداً، كما قال الله جل وعلا: {بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:١٤]، فالران هو تغطية القلب حتى لا يحس بشيء، لا يحس بالمصيبة، ولا يحس بالألم، والقلب يمرض مثل البدن، وقد يكون مرضه أشد، وقد يموت والعياذ بالله، وإذا مات فمعنى ذلك أن هذا هو الخسران التام.

وإذا كان مريضاً فقد يشفى وقد لا يشفى، فقد يبقى وقد يموت مريضاً، وما يناله صاحب هذا القلب من المصائب في الدنيا قد يكون غير غير كافٍ في التكفير عنه، فيقع عليه العذاب في القبر، وقد لا يكفي فيقع عليه العذاب في الموقف، وقد لا يكفي فيقع عليه العذاب في النار، ولابد أن يكون؛ لأن الجنة لا يدخلها إلا الطاهرون الطيبون الذين هذبوا وخلصوا من كل قبح.

المقصود أن سب الريح يقع من الجهال الذين لا يعرفون أسماء الله جل وعلا، ولا يعرفون أحكامه، وإذا وقع من إنسان فإنه يجب عليه أن يتوب منه، فيرجع إلى ربه ويستغفره؛ ولأن سب الفعل يعود على الفاعل، والريح من أفعال الله، وهي مأمورة منه سبحانه وتعالى.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا تسبوا الريح، فإذا رأيتم ما تكرهون فقولوا: اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح، وخير ما فيها، وخير ما أمرت به، ونعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما فيها وشر ما أمرت به) صححه الترمذي].

فهذا الحديث يرشد فيه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الأدب، فيما إذا نال الإنسان شيء من الريح وأذى؛ لأن الريح قد تحمل أشياء وقد تلقيها، وقد تكون عذاباً، وقد تكون رحمة، ولهذا جاء أن الريح من روح الله، ومعنى (من روح الله)، من رحمته، والرحمة قد تكون رحمة عامة وقد تكون خاصة، وقد تكون عذاباً، كما قال الله جل وعلا في عاد لما رأوا السحاب مقبلاً إليهم: {قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف:٢٤]، قيل لهم: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [الأحقاف:٢٤ - ٢٥]، أي: تدمر كل ما مرت عليه.

ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا رأى السحاب ورأى الرياح يتغير لونه ويدخل ويخرج، حتى يرى ذلك عليه ظاهراً، فسئل عن ذلك فقال: (وما يؤمنني إن قوماً رأوا السحاب فقالوا: ((هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا)) [الأحقاف:٢٤]، قيل: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف:٢٤ - ٢٥]).

فيخشى أن الخلق إذا عصوا الله جل وعلا أن يأخذهم بأي شيء وبأي وسيلة.

والمقصود أن الريح مأمورة، وهي حاملة للخير والرحمة من السحاب والمطر الذي يرحم الله جل وعلا به عباده، فتكون ملقحة له، وتكون سبباً للخير، ولهذا أخبر الله جل وعلا أنها بشرى، يعني: إذا جاءت الرياح تكون بشرى بين يدي رحمة الله جل وعلا، أي: بين يدي نزول المطر، ومع ذلك قد تكون عذاباً، كما هو واقع الآن من الكوارث التي تسببها الريح.

والواجب على العباد أن ينظروا إلى أن ما يقع لهم من ذلك إنما هو تأديب لهم من الله، وكثيراً ما يقول الناس الآن: إن الكوارث طبيعية، فهم يجعلونها كوارث طبيعية ويرجعونها إلى الطبيعة، وما ندري ما هي الطبيعة؟ هل الطبيعة حرارة وبرودة، أو النفس، أو النار هي نفسها طبيعة؟ إن الطبيعة لا تعمل شيئاً، وإنما هو بتدبير الله جل وعلا حتى يتعظ العباد وينزجروا عن المعاصي، وكثيراً ما نسمع أن العواصف دمرت كذا وقتلت كذا وأصابت كذا، وهو كله بأمر الله جل وعلا وبعقابه، يعاقب العباد لعلهم يرعوون ويرجعون إليه، فإذا حدث من ذلك شيء فإن على الإنسان أن يعلم أنه هو السبب، وأن ما أصابه بذنبه، فيرجع إلى ربه ويستغفر ويتوب، ولا يسب الريح؛ فإنها مطيعة لله جل وعلا، أمرت فأطاعت، وإذا سبها عاد السب عليه؛ لأن من لعن شيئاً لا يستحقه فهو الملعون.

وقد جاء في حديث ذكره الشافعي رحمه الله: أن سب الريح سبب للفقر -أي: من أسباب وجود الفقر-، فإنه جاء في حديث منقطع (أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يشكو حاجة شديدة فقال: لعلك تسب الريح؟ قال: نعم)، فيكون ذلك من الأسباب أعني: من عقاب الله جل وعلا.

فإذا رأى الإنسان الريح يقول ما أرشد إليه الرسول صلى الله عليه وسلم، فيسأل الله من خيرها وخير ما بعثت به، ويستعيذ بالله جل وعلا من شرها وشر ما بعثت به، وأن يلجأ إلى الله جل وعلا.