فصار نوح عليه السلام يشكو إلى ربه ويقول:{قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلَاً وَنَهَارَاً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارَاً}[نوح:٥ - ٦] يفرون من التوحيد {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ}[نوح:٧] لئلا يسمعواكلامه {وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} يعني: غطوا عيونهم بثيابهم حتى لا ينظرون إليه، وهذا من المبالغة في الإعراض، فكانوا يغطون وجوههم ويصمون آذانهم، {وَأَصَرُّوا}[نوح:٧] على فعلهم الذي هم عليه من عبادة غير الله، وجعلوا هذه الأشياء وسائط يتشفعون بها، {وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا}[نوح:٧] عن دعوة نوح استكبارً متكرراً ومبالَغاً فيه.
ثم يقول عليه السلام: إنه حاول بجميع الطرق: دعوتهم جهاراً ودعوتهم في الليل والنهار، ودعوتهم في السر والعلن ولكن ما أفاد شيئاً، فيقول:{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارَاً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارَاً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارَاً}[نوح:١٠ - ١٢] يعني: في الدنيا، فجاءهم بالترغيب والترهيب، وبالأفراد وبالجماعات، ولكن لم يُجدِ شيئاً، إلى أن قال في شكايته إلى ربه:{قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارَاً}[نوح:٢١] من هو هذا الذي لم يزده ماله وولده إلَّا خساراً؟ هو الذي يتبع غير دين الله، فالمال والولد يزيده بعداً عن الله، فيكون خاسراً، ثم يذكر وصايتهم في التمسك بأمواتهم، وأنهم كانوا يوصي بعضهم بعضاً:{وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ}[نوح:٢٣] أي: كل من كانت عنده آلهة فليتمسك بها، أما الآلهة الخاصة المقدَّمة العظيمة التي هي أول ما حدث من أجله الشرك، فهم الذين ذكروهم بقولهم:{وَلا تَذَرُنَّ وَدَّاً وَلا سُوَاعَاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرَاً}[نوح:٢٣]، فهذه منهم وصية خاصة بعد الوصية العامة، فأوصى بعضهم بعضاً.
أولاً: بالتمسك بكل المعبودات.
ثانياً: بالتمسك بهؤلاء الخمسة الذين ذُكرت قصتهم، والذين كانوا في الأصل أسماء رجال صالحين فيهم، فماتوا ثم صوروا صورهم ونصبوها ليتذكروا أفعالهم؛ فيجتهدوا كاجتهادهم، فصاروا فيما بعد من أكبر المعبودات، ومن أعظم ما يصد عن دعوة رسول الله نوح صلى الله عليه وسلم.
إلى أن قال في شكايته إلى ربه:{وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارَاً}[نوح:٢٦] أي: لا تترك واحداً من الكافرين يسكن في الأرض، ولماذا؟ لأنه حاول كل المحاولات، وكرر وأبدى وأعاد، وبقي معهم ألف سنة إلَّا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله، ومع ذلك ما أجدى شيئاً، فتمسك بكل من جاء من شبابهم الذين يظن ويرجو أنهم لا يكونون مثل آبائهم، ولكن لم يجد شيئاً، بل أوصاهم آباؤهم ولقنوهم وعلموهم -وربما بالقوة- وحذروهم من سماع قول نوح، ولهذا دعا عليهم فقال:{رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارَاً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ}[نوح:٢٦ - ٢٧] والله علام الغيوب ولا شك، ونوح لم يدع علم الغيب الذي عند الله جلَّ وعلا، ولكن الله جلَّ وعلا قد قال لنوح وأوحى إليه:{أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}[هود:٣٦].
فلما جاءه الوحي بأنه لن يؤمن من قومه إلَّا من قد آمن دعا هذا الدعاء:{وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارَاً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ}[نوح:٢٦ - ٢٧] أي: عبادك المؤمنين الذين سيولدون، أما الموجود منهم فهو ضال، {وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرَاً كَفَّارَاً}[نوح:٢٧] يعني: أولادهم يكونون مثلهم، ثم دعا لنفسه ولوالديه وللمؤمنين ولمن دخل بيته مؤمناً، وهذه الدعوة ينبغي أن يقتدي المسلم بنوح عليه السلام فيها.