[طاعة العلماء في تحليل الحرام وتحريم الحلال شرك أكبر]
قال المصنف رحمه الله تعالى:[باب: من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله فقد اتخذهم أرباباً من دون الله].
من أطاع العلماء والأمراء في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله، فقد اتخذهم أرباباً من دون الله؛ لأن الله جل وعلا يقول:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ}[التوبة:٣١]، وهذه الآية يقصد بها اليهود والنصارى.
والأحبار هم العلماء، والرهبان هم العباد، وأما المسيح عليه السلام فهو رسول الله الذي جاء بالإنجيل وجاء بالرسالة التي فيها التخفيف على بني إسرائيل، ووضع كثيراً من الآصار التي كانت عليهم، وهو من أولي العزم، فاتخذوه إلهاً مع الله؛ لأنه -كما هو معلوم- آية ظاهرة من آيات الله جل وعلا، حيث وجد من أنثى لم يتصل بها ذكر، وإنما خلقه الله جل وعلا من مريم بواسطة نفخة الملك الذي أرسل إليها وهو جبريل عليه السلام، كما ذكر تفصيل ذلك ربنا جل وعلا في سورة مريم وفي غيرها، فلما كان بهذه المثابة زين الشيطان للناس أنه الله أو ابن الله أو أنه ثالث ثلاثة، يعني: أن الآلهة ثلاثة: الله ومريم وعيسى، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً.
فالمقصود هنا كونه قرن اتباع الأحبار والرهبان مع العلم بمخالفتهم لأمر الله؛ بعبادة النصارى لعيسى فإنهم عبدوه عبادة واضحة ظاهرة.
فكونه قرن الرهبان والأحبار مع عيسى يدلنا على أنه لا فرق بين أن يطيع الإنسان مخلوقاً في تحليل الحرام أو تحريم الحلال، وبين أن يعبده عبادة صريحة واضحة، وقد جاء حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أوضح هذا المعنى تمام الإيضاح؛ فإنه صلى الله عليه وسلم:(لما قدم عدي بن حاتم وهو نصراني من نصارى العرب كما هو معروف وهو ابن حاتم الجواد المعروف المشهور في أشعار العرب وكلامهم، ولكنه لما جاءت سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بلاد طيء وقد أعد نجائب ليهرب عليها إلى الشام، فأخذت خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخته إلى آخر القصة)، ولكنه جاء بسبب كتابة أخته له: فإنها لما جاءت المدينة في الأسرى، كان إذا مر عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم تقول له: من علي من الله عليك، فإني كبيرة لا أستطيع الخدمة ولا وافد لي ولا فادي لي، فقد ذهب الوافد وقل الرافد، فقال لها: ومن الوافد؟ قالت: عدي بن حاتم -أخوها- فقال: ذاك الذي هرب من الله ومن رسوله.
ثم أعادت عليه الكلام مرة أخرى فقال لها صلى الله عليه وسلم: إذا جاء وفد قومك فأعلمين، فجاء وفد قومها، فمن عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لها علي بن أبي طالب رضي الله عنه: اسأليه الحملان، فسألته فأعطاها ما سألته.
فلما ذهبت كتبت إلى أخيها تؤنبه تقول: كيف تركت عوراتك وهربت؟! ليس هذا فعل أبيك ولا فعل من يهمه أمر أهله؟ ثم قالت: ائت إليه فهو والله خير من أبيك، وهو يعطي العطاء الذي لا يستطيع أبوك أن يعطيه، ائت إليه وضع يدك في يده فلن تجد إلا خيراً وحسناً، فجاء ممتثلاً لأمرها، ودخل على النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد وهو لا يعرفه، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يعرفه، وكان صلى الله عليه وسلم إذا جلس مع أصحابه لا يتميز عنهم، فليس له مجلس مرتفع لا كرسي ولا غيره، وإنما يجلس معهم في مجلسهم فإذا جاء الغريب لا يعرفه.
فوقف فقال: أيكم محمد صلى الله عليه وسلم؟! فقال من عنده للرسول صلى الله عليه وسلم: هذا عدي بن حاتم، وكان صلى الله عليه وسلم يكرم رؤساء الناس وكبارهم، فقام معه صلى الله عليه وسلم وذهب به إلى بيته، يقول عدي:(فصار يتلو هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ}[التوبة:٣١]، فقلت: يا رسول الله: إننا لم نعبدهم، قال: بلى، ألم يحللوا لكم الحرام فتتبعوهم؟ ويحرموا عليكم الحلال فتتبعوهم؟ فقلت: بلى، قال: تلك عبادتهم)، هذا أمر واضح جلي؛ لأن طاعة المخلوق في معصية الله جل وعلا عبادة له.