للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[لا يملك النفع والضر إلا الله]

قال الشارح رحمه الله تعالى: [وفسره ابن جرير في تفسيره: بالدعاء وهو فرد من أفراد العبادة، على عادة السلف في التفسير: يفسرون الآية ببعض أفراد معناها، فمن صرف منها شيئاً لقبر، أو صنم، أو وثن، أو غير ذلك: فقد اتخذه معبوداً، وجعله شريكاً لله في الإلهية التي لا يستحقها إلا هو، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهَاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون:١١٧]، فتبين بهذه الآية ونحوها أن دعوة غير الله كفر وشرك وضلال.

وقوله: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس:١٠٧]، فإنه المتفرد بالملك والقهر، والعطاء والمنع، والضر والنفع، دون كل ما سواه، فيلزم من ذلك: أن يكون هو المدعو وحده، المعبود وحده، فإن العبادة لا تصلح إلا لمالك الضر والنفع، ولا يملك ذلك ولا شيئاً منه غيره تعالى، فهو المستحق للعبادة وحده دون من لا يضر ولا ينفع.

وقوله تعالى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر:٣٨]]: هذا أيضاً خطاب الله جلَّ وعلا يتحدى فيه الكفار: بأن يدعوا أصنامهم وآلهتهم؛ لتجلب لهم شيئاً من النفع والنعم التي لم يقدرها الله جلَّ وعلا ولم يُردها، أو أن تدفع شيئاً من النقم والمصائب التي قدرها.

ويقول جلَّ وعلا في أول الآية: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الزمر:٣٨] (قل أفرأيتم) أي: أخبروني عن هذه التي تدعونها من دون الله.

{إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ} [الزمر:٣٨]، أي: هل تستطيع -إن أرادني بمرض، أو أصابني بفقر، أو أصابني بإدالة عدو، أو ما أشبه ذلك- أن تمنع هذا وتصرفه؟!

الجواب

لا تستطيع.

ثم قال تعالى: {أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} [الزمر:٣٨]، هل تستطيع أن تمسك رحمته، وأن تأتي إلى هذا الذي أراده الله جلَّ وعلا بالرحمة فتمنعها عنه؟! لا تستطيع.

ثم يقول: {قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ} [الزمر:٣٨] أي: هو كافيني، وهو الذي أعتمد عليه، وأدعوه وأعبده دون غيره.

يقول مجاهد رحمه الله: إن الرسول سألهم؛ لأن الله أمره أن يسألهم: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ} (قل): هذا أمر من الله أن يقول لهم، فسألهم وقال لهم: (أرأيتم هذه الأصنام: هل تدفع الضر عمن أراد الله جلَّ وعلا به الضر، أو تمسك الرحمة أن تصل إلى من أراد الله به الرحمة؟ فسكتوا) يقول: سألهم فسكتوا، لماذا (سكتوا)؟ لأنهم يعلمون أنها لا تفعل شيئاً من ذلك، ولكنهم يكابرون؛ ومتمسكون بدين آبائهم! وليس لهم في ذلك حجة إلَّا أنهم وجدوا آباءهم يعبدون هذه الأصنام، مع أنهم لا يعتقدون أنها شاركت الرب جلَّ وعلا في التدبير، أو شاركته في الملك، أو شاركته في الخلق والإيجاد، ولهذا بدأ بسؤالهم عن خالق السماء: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزمر:٣٨] يعني: ليس عندهم شك أن الخالق هو الله، فهم يقرون بهذا، ومعنى هذا: أن الله يحتج عليهم بكونهم يقرون بأن الله هو الذي يتفرد بالخلق والنفع والضر ولا يشاركه أحد، فإذا كان كذلك فيجب أن يُفرَد بالعبادة، وألا يُدعَى غيره، هذا وجه التحدي ووجه إقامة الحجة عليهم، وهذا كثير جداً في القرآن، فكل الآيات التي فيها النهي عن الشرك والأمر بالعبادة تُبنى على هذا الشيء، كقوله جلَّ وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشَاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقَاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادَاً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:٢١ - ٢٢]، يعلمون أن الله هو الخالق وحده هو الذي خلق السماوات وخلق الأرض على هذه الصفة، وهو الذي ينزل المطر فينبت النبات، يعلمون حقاً أن الله هو المتفرد بهذا، فإذا كانوا يعلمون ذلك: فلماذا يدعون معه غيره؟! ما حجتهم وما برهانهم وما دليلهم؟!